﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ : التمييز محذوف، والمتبادر إلى الذهن أنه ملك. ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه أن المراد ملك حين سمعوا ذلك ؟ فقال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمّهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ؟ فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي، وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين، فأنزل الله تعالى :﴿وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَـابَ النَّارِ إِلا مَلَئاِكَةً﴾ أي ما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون، وأنزل الله تعالى في أبي جهل ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴾. وقيل : التمييز المحذوف صنفاً من الملائكة، وقيل : نقيباً، ومعنى عليها يتولون أمرها وإليهم جماع زبانيتها، فالذي يظهر من العدد ومن الآية بعد ذلك ومن الحديث أن هؤلاء هم النقباء. ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ﴾، وقوله عليه الصلاة والسلام :"يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها" ؟ وقد ذكر المفسرون من نعوت هؤلاء الملائكة وخلقهم وقوتهم، وما أقدرهم الله تعالى عليه من الأفعال ما الله أعلم بصحته، وكذلك ذكر أبو عبد الله الرازي حكماً على زعمه في كون هؤلاء الملائكة على هذا العدد المخصوص يوقف عليها في تفسيره.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٦٨
وقرأ الجمهور :﴿تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ مبنيين على الفتح على مشهور اللغة في هذا العدد. وقرأ أبو جعفر وطلحة بن سليمان : بإسكان العين، كراهة توالي الحركات. وقرأ أنس بن مالك وابن عباس وابن قطيب وإبراهيم بن قنة : بضم التاء، وهي حركة بناء عدل إليها عن الفتح لتوالي خمس فتحات، ولا يتوهم أنها حركة إعراب، لأنها لو كانت حركة إعراب لأعرب عشر. وقرأ أنس أيضاً : تسعة بالضم، أعشر بالفتح. وقال صاحب اللوامح : فيجوز أنه جمع العشرة على أعشر ثم أجراه مجرى تسعة عشر، وعنه أيضاً تسعة وعشر بالضم، وقلب الهمزة من أعشر واواً خالصة تخفيفاً، والباء فيهما مضمومة ضمة بناء لأنها معاقبة للفتحة، فراراً من الجمع بين خمس
٣٧٥
حركات على جهة واحدة. وعن سليمان بن قنة، وهو أخو إبراهيم : أنه قرأ تسعة أعشر بضم التاء ضمة إعراب وإضافته إلى أعشر، وأعشر مجرور منون وذلك على فك التركيب. قال صاحب اللوامح : ويجيء على هذه القراءة، وهي قراءة من قرأ أعشر مبنياً أو معرباً من حيث هو جمع، أن الملائكة الذين هم على النار تسعون ملكاً. انتهى، وفيه بعض تلخيص. قال الزمخشري : وقرىء تسعة أعشر جمع عشير، مثل يمين وأيمن. انتهى. وسليمان بن قنة هذا هو الذي مدح أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو القائل :
مررت على أبيات آل محمدفلم أر أمثالاً لها يوم حلت
وكانوا ثمالاً ثم عادوا رزيةلقد عظمت تلك الرزايا وجلت
﴿وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَـابَ النَّارِ إِلا مَلَئاِكَةً﴾ : أي جعلناهم خلقاً لا قبل لأحد من الناس بهم، ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ : أي سبب فتنة، وفتنة مفعول ثان لجعلنا، أي جعلنا تلك العدّة، وهي تسعة عشر، سبباً لفتنة الكفار، فليس فتنة مفعولاً من أجله، وفتنهم هي كونهم أظهروا مقاومتهم في مغالبتهم، وذلك على سبيل الاستهزاء. فإنهم يكذبون بالبعث وبالنار وبخزنتها. ﴿لِيَسْتَيْقِنَ﴾ : هذا مفعول من أجله، وهو متعلق بجعلنا لا بفتنة. فليست الفتنة معلولة للاستيقان، بل المعلول جعل العدّة سبباً لفتنة ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ﴾، وهم اليهود والنصارى. إنّ هذا القرآن هو من عند الله، إذ هم يجدون هذه العدّة في كتبهم المنزلة، ويعلمون أن الرسول لم يقرأها ولا قرأها عليه أحد، ولكن كتابة يصدّق كتب الأنبياء، إذ كل ذلك حق يتعاضد من عند الله تعالى. قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد، وبورود الحقائق من عند الله يزداد كل ذي إيمان إيماناً، ويزول الريب عن المصدّقين من أهل الكتاب وعن المؤمنين. وقيل : إنما صار جعلها فتنة لأنهم يستهزئون ويقولون : لم لم يكونوا عشرين ؟ وما المقتضى لتخصيص هذا العدد بالوجود ؟ ويقولون هذا العدد القليل، يقوون بتعذيب أكثر العالم من الجن والإنس من أول ما خلق الله تعالى إلى قيام الساعة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٦٨


الصفحة التالية
Icon