وقرأ الأعمش والأعرج وزيد بن علي وعيسى وأبو حيوة وعاصم في رواية :﴿لِّلْمُكَذِّبِينَ * هذا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ﴾، بفتح الميم ؛ والجمهور : برفعها. قال ابن عطية : لما أضاف إلى غير متمكن بناه فهي فتحة بناء، وهي في موضع رفع. وقال صاحب اللوامح : قال عيسى : هي لغة سفلى مضر، يعني بناءهم يوم مع لا على الفتح، لأنهم جعلوا يوم مع لا كالاسم الواحد، فهو في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ. انتهى. والجملة المصدرة بمضارع مثبت أو منفي لا يجيز البصريون في الظرف المضاف إليها البناء بوجه، وإنما هذا مذهب كوفي. قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نصباً صحيحاً على الظرف، فيصير هذا إشارة إلى ما تقدمه من الكلام دون إشارة إلى يوم، ويكون العامل في نصب يوم نداء تقدمه من صفة
٤٠٧
جهنم، ورميها بالشرر في يوم لا ينطقون، فيكون يومئذ كلام معترض لا يمنع من تفريغ العامل للمعمول، كما كانت ﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ﴾. انتهى. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون ظرفاً، وتكون الإشارة بهذا إلى رميها بشرر. وقال الزمخشري : ونصبه الأعمش، أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ، وهنا نفي نطقهم. وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم نطقوا في مواضع من هذا اليوم، وذلك باعتبار طول اليوم، فيصح أن ينفي القول فيه في وقت ويثبت في وقت، أو نفي نطقهم بحجة تنفع وجعل نطقهم بما لا ينفع كلا نطق.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٠٢
وقرأ القراء كلهم فيما أعلم :﴿وَلا يُؤْذَنُ﴾ مبنياً للمفعول. وحكى أبو علي الأهوازي أن زيد بن علي قرأ : ولا يأذن، مبنياً للفاعل، أي الله تعالى، ﴿فَيَعْتَذِرُونَ﴾ : عطف على ﴿وَلا يُؤْذَنُ﴾ داخل في حيز نفي الإذن، أي فلا إذن فاعتذار، ولم يجعل الاعتذار متسبباً عن الإذن فينصب. وقال ابن عطية : ولم ينصب في جواب النفي لتشابه رؤوس الآي، والوجهان جائزان. انتهى. فجعل امتناع النصب هو تشابه رؤوس الآي وقال : والوجهان جائزان، فظهر من كلامه استواء الرفع والنصب وأن معناهما واحد، وليس كذلك لأن الرفع كما ذكرنا لا يكون متسبباً بل صريح عطف، والنصب يكون فيه متسبباً فافترقا. وذهب أبو الحجاج الأعلم إلى أن قد يرفع الفعل ويكون معناه المنصوب بعد الفاء وذلك قليل، وإنما جعل النحويون معنى الرفع غير معنى النصب رعياً للأكثر في كلام العرب، وجعل دليله ذلك، وهذه الآية كظاهر كلام ابن عطية، وقد رد ذلك عليه ابن عصفور وغيره.
﴿هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِا جَمَعْنَاكُمْ﴾ للكفار، ﴿وَالاوَّلِينَ﴾ : قوم نوح عليه السلام وغيرهم من الكفار الذين تقدم زمانهم على زمان المخاطبين، أي جمعناكم للفصل بين السعداء والأشقياء. ﴿فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ﴾ : أي في هذا اليوم، كما كان لكم في الدنيا ما تكيدون به دين الله وأولياءه، ﴿فَكِيدُونِ﴾ اليوم، وهذا تعجيز لهم وتوبيخ. ولما كان في سورة الإنسان ذكر نزراً من أحوال الكفار في الآخرة، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها، جاء في هذه السورة الإطناب في وصف الكفار والإيجاز في وصف المؤمنين، فوقع بذلك الاعتدال بين السورتين. وقرأ الجمهور :﴿فِى ظِلَالٍ﴾ جمع ظل ؛ والأعمش : في ظلل جمع ظلة. ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا ﴾ : خطاب لهم في الآخرة على إضمار القول، ويدل عليه ﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾. ﴿كُلُوا وَتَمَتَّعُوا ﴾ : خطاب للكفار في الدنيا، ﴿قَلِيلا﴾ : أي زماناً قليلاً، إذ قصارى أكلكم وتمتعكم الموت، وهو خطاب تهديد لمن أجرم من قريش وغيرهم.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا ﴾ : من قال إنها مكية، قال هي في قريش ؛ ومن قال إن هذه الآية مدنية، قال هي في المنافقين. وقال مقاتل : نزلت في ثقيف، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : حط عنا الصلاة فإنا لا ننحني إنها مسبة، فأبى وقال :"لا خير في دين لا صلاة فيه". ومعنى اركعوا : اخشعوا لله وتواضعوا له بقبول وحيه. وقيل : الركوع هنا عبارة عن الصلاة ؛ وخص من أفعالها الركوع، لأن العرب كانوا يأنفون من الركوع والسجود. وجاه في هذه السورة بعد كل جملة قوله :﴿وَيْلٌ يومئذ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾، لأن كل جملة منها فيها إخبار الله تعالى عن أشياء من أحوال الآخرة وتقريرات من أحوال الدنيا، فناسب أن نذكر الوعيد عقيب كل جملة منها للمكذب بالويل في يوم الآخرة. والضمير في ﴿بَعْدَهُ﴾ عائد على القرآن، والمعنى أنه قد تضمن من الإعجاز والبلاغة والإخبار المغيبات وغير ذلك مما احتوى عليه ما لم يتضمنه كتاب إلهي، فإذا كانوا مكذبين به، فبأي حديث بعده يصدقون به ؟ أي لا يمكن تصديقهم بحديث بعد أن كذبوا بهذا الحديث الذي هو القرآن. وقرأ الجمهور :﴿يُؤْمِنُونَ﴾ بياء الغيبة ؛ ويعقوب وابن عامر في رواية : بتاء الخطاب.
٤٠٨
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٠٢


الصفحة التالية
Icon