﴿مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ﴾ : استفهام على معنى التقرير على حقارة ما خلق منه. ثم بين ذلك الشيء الذي خلق منه فقال :﴿مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَه فَقَدَّرَهُ﴾ : أي فهيأه لما يصلح له. وقال ابن عباس : أي في بطن أمه، وعنه قدر أعضاءه، وحسناً ودميماً وقصيراً وطويلاً وشقياً وسعيداً. وقيل : من حال إلى حال، نطفة ثم علقة، إلى أن تم خلقه. ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ : أي ثم يسر السبيل، أي سهل. قال ابن عباس وقتادة وأبو صالح والسدي : سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان، وتيسيره له هو هبة العقل. وقال مجاهد والحسن وعطاء وابن عباس في رواية أبي صالح عنه : السبيل العام اسم الجنس في هدى وضلال، أي يسر قوماً لهذا، كقوله :﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ﴾ ؛ وعن ابن
٤٢٨
عباس : يسره للخروج من بطن أمه. ﴿ثُمَّ أَمَاتَه فَأَقْبَرَهُ﴾ : أي جعل له قبراً صيانة لجسده أن يأكله الطير والسباع. قبره : ذفنه، وأقبره : صيره بحيث يقبر وجعل له قبراً، والقابر : الدافن بيده. قال الأعشى :
لو أسندت ميتاً إلى قبرهاعاش ولم ينقل إلى قابر
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٢٦
﴿ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ﴾ : أي إذا أراد إنشاره أنشره، والمعنى : إذا بلغ الوقت الذي قد شاءه الله، وهو يوم القيامة. وفي كتاب اللوامح شعيب بن الحبحاب : شاء نشره، بغير همز قبل النون، وهما لغتان في الأحياء ؛ وفي كتاب ابن عطية : وقرأ شعيب بن أبي حمزة : شاء نشره. ﴿كَلا﴾ : ردع للإنسان عن ما هو فيه من الكفر والطغيان. ﴿لَمَّا يَقْضِ﴾ : يفي من أول مدة تكليفه إلى حين إقباره، ﴿مَآ أَمَرَهُ﴾ به الله تعالى، فالضمير في يقض للإنسان. وقال ابن فورك : لله تعالى، أي لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان، بل أمره بما لم يقض له. ولما عدّد تعالى نعمه في نفس الإنسان، ذكر النعم فيما به قوام حياته، وأمره بالنظر إلى طعامه وكيفيات الأحوال التي اعتورت على طعامه حتى صار بصدد أن يطعم. والظاهر أن الطعام هو المطعوم، وكيف ييسره الله تعالى بهذه الوسائط المذكورة من صب الماء وشق الأرض والإنبات، وهذا قول الجمهور. وقال أبيّ وابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم :﴿إِلَى طَعَامِهِ﴾ : أي إذا صار رجيعاً ليتأمل عاقبة الدنيا على أي شيء يتفانى أهلها. وقرأ الجمهور : إنا بكسر الهمزة ؛ والأعرج وابن وثاب والأعمش والكوفيون ورويس :﴿أَنَّا﴾ بفتح الهمزة ؛ والحسين بن عليّ رضي الله تعالى عنهما : أني بفتح الهمزة مما لا ؛ فالكسر على الاستئناف في ذكر تعداد الوصول إلى الطعام، والفتح قالوا على البدل، ورده قوم، لأن الثاني ليس الأول. قيل : وليس كما ردوا لأن المعنى : فلينظر الإنسان إلى إنعامنا في طعامه، فترتب البدل وصح. انتهى. كأنهم جعلوه بدل كل من كل، والذي يظهر أنه بدل الاشتمال. وقراءة أبي ممالا على معنى : فلينظر الإنسان كيف صببنا. وأسند تعالى الصب والشق إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب، وصب الماء هو المطر. والظاهر أن الشق كناية عن شق الفلاح بما جرت العادة أن يشق به. وقيل : شق الأرض هو بالنبات. ﴿حَبًّا﴾ : يشمل ما يسمى حباً من حنطة وشعير وذرة وسلت وعدس وغير ذلك. ﴿وَقَضْبًا﴾، قال الحسن : العلف، وأهل مكة يسمون القت القضب. وقيل : الفصفصة، وضعف لأنه داخل في الأب. وقيل : ما يقضب ليأكله ابن آدم غضاً من النبات، كالبقول والهليون. وقال ابن عباس : هو الرطب، لأنه يقضب من النخل، ولأنه ذكر العنب قبله. ﴿غُلْبًا﴾، قال ابن عباس : غلاظاً، وعنه : طوالاً ؛ وعن قتادة وابن زيد : كراماً ؛ ﴿وَفَاكِهَةً﴾ : ما يأكله الناس من ثمر الشجر، كالخوخ والتين ؛ ﴿وَأَبًّا﴾ : ما تأكله البهائم من العشب. وقال الضحاك : التبن خاصة. وقال الكلبي : كل نبات سوى الفاكهة رطبها، والأب : يابسها. ﴿الصَّآخَّةُ﴾ : اسم من أسماء القيامة يصم نبأها الآذان، تقول العرب : صختهم الصاخة ونابتهم النائبة، أي الداهية. وقال أبو بكر بن العربي : الصاخة هي التي تورث الصمم، وأنها لمسمعة، وهذا من بديع الفصاحة، كقوله :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٢٦
أصمهم سرّهم أيام فرقتهمفهل سمعتم بسرّ يورث الصمما
وقول الآخر :
أصم بك الناعي وإن كان أسمعا
ولعمر الله إن صيحة القيامة مسمعه تصم عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة. انتهى. ﴿يَوْمَ يَفِرُّ﴾ : بدل من إذا، وجواب إذا محذوف تقديره : اشتغل كل إنسان بنفسه، يدل عليه :﴿لِكُلِّ امْرِى ٍ مِّنْهُمْ يومئذ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾، وفراره من شدّة الهول يوم القيامة، كما جاء من قول الرسل :"نفسي نفسي". وقيل : خوف التبعات، لأن الملابسة تقتضي المطالبة. يقول الأخ : لم تواسني بمالك، والأبوان قصرت في برنا، والصحابة أطمتني الحرام وفعلت وصنعت، والبنون لم
٤٢٩
تعلمنا وترشدنا. وقرأ الجمهور :﴿يُغْنِيهِ﴾ : أي عن النظر في شأن الآخر من الإغناء ؛ والزهري وابن محيصن وابن أبي عبلة وحميد وابن السميقع : يعنيه بفتح الياء والعين المهملة، من قولهم : عناني الأمر : قصدني. ﴿مُّسْفِرَةٌ﴾ : مضيئة، من أسفر الصبح : أضاء، و﴿تَرْهَقُهَا﴾ : تغشاها، ﴿قَتَرَةٌ﴾ : أي غبار. والأولى ما يغشاه من العبوس عند الهم، والثانية من غبار الأرض. وقيل :﴿غَبَرَةٌ﴾ : أي من تراب الأرض، وقترة : سواد كالدخان. وقال زيد بن أسلم : الغبرة : ما انحطت إلى الأرض، والقترة : ما ارتفعت إلى السماء. وقرأ الجمهور : قترة، بفتح التاء ؛ وابن أبي عبلة : بإسكانها.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٢٦


الصفحة التالية
Icon