﴿عَسْعَسَ﴾ بلغة قريش، وقال الحسن : أقبل ظلامه، ويرجحه مقابلته بقوله :﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾، فهما حالتان. وقال المبرد : أفسم بإقباله وإدباره وتنفسه كونه يجيء معه روح ونسيم، فكأنه نفس له على المجاز. ﴿أَنَّهُ﴾ : أي إن هذا المقسم عليه، أي إن القرآن ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ ؛ الجمهور : على أنه جبريل عليه السلام. وقيل : محمد صلى الله عليه وسلّم، وكريم صفة تقتضي نفي المذام كلها وإثبات صفات المدح اللائقة به. ﴿ذِى قُوَّةٍ﴾ : كقوله :﴿شَدِيدُ الْقُوَى ﴾. ﴿عِندَ ذِى﴾ : الكينونة اللائقة من شرف المنزلة وعظم المكانة. وقيل : العرش متعلق بمكين مطاع. ثم إشارة إلى ﴿عِندَ ذِى الْعَرْشِ﴾ : أي إنه مطاع في ملائكة الله المقربين يصدرون عن أمره. وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وأبو البرهثم وابن مقسم : ثم، بضم الثاء : حرف عطف، والجمهور :﴿ثُمَّ﴾ بفتحها، ظرف مكان للبعيد. وقال الزمخشري : وقرىء ثم تعظيماً للأمانة وبياناً لأنها أفضل صفاته المعدودة. انتهى. وقال صاحب اللوامح : بمعنى مطاع وأمين، وإنما صارت ثم بمعنى الواو بعد أن مواضعتها للمهلة والتراخي عطفاً، وذلك لأن جبريل عليه السلام كان بالصفتين معاً في حال واحدة، فلو ذهب ذاهب إلى الترتيب والمهلة في هذا العطف بمعنى مطاع في الملأ الأعلى، ﴿ثَمَّ أَمِينٍ﴾ عند انفصاله عنهم، حال وحيه على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لجاز أن لو ورد به أثر انتهى. ﴿أَمِينٌ﴾ : مقبول القول يصدق فيما يقوله، مؤتمن على ما يرسل به من وحي وامتثال أمر. ﴿وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ﴾ : نفى عنه ما كانوا ينسبونه إليه ويبهتونه به من الجنون.
﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ﴾ : أي رأى الرسول صلى الله عليه وسلّم جبريل عليه السلام، وهذه الرؤية بعد أمر غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء
٤٣٤
والأرض في صورته له ستمائة جناح. وقيل : هي الرؤية التي رآه فيها عند سدرة المنتهى، وسمى ذلك الموضع أفقاً مجازاً. وقد كانت له عليه السلام، رؤية ثانية بالمدينة، وليست هذه. ووصف الأفق بالمبين لأنه روي أنه كان في المشرق من حيث تطلع الشمس، قاله قتادة وسفيان. وأيضاً فكل أفق في غاية البيان. وقيل : في أفق السماء الغربي، حكاه ابن شجرة. وقال مجاهد : رآه نحو جياد، وهو مشرق مكة. وقرأ عبد الله وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وعائشة وعمر بن عبد العزيز وابن جبير وعروة وهشام بن جندب ومجاهد وغيرهم، ومن السبعة النحويان وابن كثير : بظنين بالظاء، أي بمتهم، وهذا نظير الوصف السابق بأمين. وقيل : معناه بضعيف القوة على التبليغ من قولهم : بئر ظنون إذا كانت قليلة الماء، وكذا هو بالظاء في مصحف عبد الله. وقرأ عثمان وابن عباس أيضاً والحسن وأبو رجاء والأعرج وأبو جعفر وشيبة وجماعة غيرهم وباقي السبعة : بالضاد، أي ببخيل يشح به لا يبلغ ما قيل له ويبخل، كما يفعل الكاهن حتى يعطى حلوانه. قال الطبري : وبالضاد خطوط المصاحف كلها.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٣٠
﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ﴾ : أي الذي يتراءى له إنما هو ملك لا مثل الذي يتراءى للكهان. ﴿فَأيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ : استضلال لهم، حيث نسبوه مرة إلى الجنون، ومرة إلى الكهانة، ومرة إلى غير ذلك مما هو بريء منه. وقال الزمخشري : كما يقال لتارك الجادة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيات الطريق : أي تذهب ؟ مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل. انتهى. ﴿ذُكِرَ﴾ : تذكرة وعظة، ﴿لِمَن شَآءَ﴾ : بدل من ﴿لِّلْعَالَمِينَ﴾، ثم عذق مشيئة العبيد بمشيئة الله تعالى. قال ابن عطية : ثم خصص تعالى من شاء الاستقامة بالذكر تشريفاً وتنبيهاً وذكراً لتلبسهم بأفعال الاستقامة. ثم بين تعالى أن تكسب العبد على العموم في استقامة وغيرها إنما يكون مع خلق الله تعالى واختراعه الإيمان في صدر المرء. انتهى. وقال الزمخشري : وإنما أبدلوا منهم لأن الذين شاءوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنه لم يوعظ به غيرهم، وإن كانوا موعوظين جميعاً. ﴿وَمَا تَشَآءُونَ﴾ الاستقامة يا من يشاؤها إلا بتوفيق الله تعالى ولطفه، ما تشاءونها أنتم يا من لا يشاؤها إلا بقسر الله وإلجاته. انتهى. ففسر كل من ابن عطية والزمخشري المشيئة على مذهبه. وقال الحسن : ما شاءت العرب الإسلام حتى شاء الله لها.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٣٠