هذه السورة مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل، مدنية في قول الحسن وعكرمة ومقاتل أيضاً. وقال ابن عباس وقتادة : مدنية إلا من ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ﴾ إلى آخرها، فهو مكي، ثمان آيات. وقال السدي : كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة، له مكيلان، يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص، فنزلت. ويقال : أنها أول سورة أنزلت بالمدينة. وقال ابن عباس : نزل بعضها بمكة، ونزل أمر التطفيف بالمدينة لأنهم كانوا أشد الناس فساداً في هذا المعنى، فأصلحهم الله بهذه السورة. وقيل : نزلت بين مكة والمدينة ليصلح الله تعالى أمرهم قبل ورود رسوله صلى الله عليه وسلّم. والمناسبة بين السورتين ظاهرة. لما ذكر تعالى السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأن يومه، ذكر ما أعد لبعض العصاة، وذكرهم بأخس ما يقع من المعصية، وهي التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئاً في تثمير المال وتنميته.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٣٩
﴿إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ﴾ : قبضوا لهم، ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ﴾، أقبضوهم. وقال الفراء : من وعلى يعتقبان هنا، اكتلت على الناس، واكتلت من الناس. فإذا قال : اكتلت منك، فكأنه قال : استوفيت منك ؛ وإذا قال : اكتلت عليك ؛ فكأنه قال : أخذت ما عليك، والظاهر أن على متعلق باكتالوا كما قررنا. وقال الزمخشري : لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيه عليهم، أبدل على مكان من للدلالة على ذلك ؛ ويجوز أن يتعلق بيستوفون، أي يستوفون على الناس خاصة، فأما أنفسهم فيستوفون لها. انتهى. وكال ووزن مما يتعدى بحرف الجر، فتقول : كلت لك ووزنت لك، ويجوز حذف اللام، كقولك : نصحت لك ونصحتك، وشكرت لك وشكرتك ؛ والضمير ضمير نصب، أي كالوا لهم أو وزنوا لهم، فحذف حرف الجر ووصل الفعل بنفسه، والمفعول محذوف وهو المكيل والموزون. وعن عيسى وحمزة : المكيل له والموزون له محذوف، وهم ضمير مرفوع تأكيد للضمير المرفوع الذي هو الواو. وقال الزمخشري : ولا يصح أن يكون ضميراً مرفوعاً للمطففين، لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد، وذلك أن المعنى : إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا أعطوهم أخسروا. وإن جعلت الضمير للمطففين، انقلب إلى قولك : إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا، وهو كلام متنافر، لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر. انتهى. ولا تنافر فيه بوجه، ولا فرق بين أن يؤكد الضمير وأن لا يؤكد، والحديث واقع في الفعل. غاية ما في هذا أن متعلق الاستيفاء، وهو على الناس، مذكور وهو في ﴿كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ﴾، محذوف للعلم به لأنه معلوم أنهم لا يخسرون الكيل والميزان إذا كان لأنفسهم، إنما يخسرون ذلك لغيرهم. وقال الزمخشري : فإن قلت : هل لا. قيل أو اتزنوا، كما قيل أو وزنوهم ؟ قلت : كأن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة، لأنهم يدعدعون ويحتالون في الملء، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً. ﴿يُخْسِرُونَ﴾ : ينقصون. انتهى. ويخسرون معدّى بالهمزة، يقال : خسر الرجل وأخسره غيره.
﴿أَلا يَظُنُّ﴾ : توقيف على أمر القيامة وإنكار عليهم في فعلهم ذلك، أي ﴿لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، وهو يوم القيامة، ويوم ظرف، العامل فيه مقدر، أي يبعثون يوم يقوم الناس. ويجوز أن يعمل فيه مبعوثون، ويكون معنى ﴿لِيَوْمٍ﴾ : أي لحساب يوم. وقال الفراء : هو بدل من يوم عظيم، لكنه
٤٣٩
بني وقرىء ﴿يَوْمَ يَقُومُ﴾ بالجر، وهو بدل من ﴿لِيَوْمٍ﴾، حكاه أبو معاد. وقرأ زيد بن عليّ : يوم بالرفع، أي ذلك يوم، ويظن بمعنى يوقن، أو هو على وضعه من الترجيح. وفي هذا الإنكار والتعجب، ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس لله خاضعين، ووصفه برب العالمين، دليل على عظم هذا الذنب وهو التطفيف. ﴿كَلا﴾ : ردع لما كانوا عليه من التطفيف، وهذا القيام تختلف الناس فيه بحسب أحوالهم، وفي هذا القيام إلجام العرق للناس، وأحوالهم فيه مختلفة، كما ورد في الحديث. والفجار : الكفار، وكتابهم هو الذي فيه تحصيل أعمالهم. ، قال الجمهور : فعيل من السجن، كسكير، أو في موضع ساجن، فجاء بناء مبالغة، فسجين على هذا صفة لموضع المحذوف. قال ابن مقبل :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٣٩
ورفقة يضربون البيض ضاحيةضرباً تواصت به الأبطال سجينا


الصفحة التالية
Icon