قوله عز وجل :﴿الابْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الابْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * عَلَى الارَآاِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُه مِسْكٌا وَفِى ذَالِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُه مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَآلُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنَ﴾.
لما ذكر تعالى أمر كتاب الفجار، عقبه بذكر كتاب ضدهم ليتبين الفرق. عليون : جمع واحده عليّ، مشتق من العلو، وهو المبالغة، قاله يونس وابن جني. قال أبو الفتح : وسبيله أن يقال علية، كما قالوا للغرفة علية، فلما حذفت التاء عوضوا منها الجمع بالواو والنون. وقيل : هو وصف للملائكة، فلذلك جمع بالواو والنون. وقال الفراء : هو اسم موضوع على صفة الجمع، ولا واحد له من لفظه، كقوله : عشرين وثلاثين ؛ والعرب إذا جمعت جمعاً، ولم يكن له بناء من واحده ولا تثنية، قالوا في المذكر والمؤنث بالواو والنون. وقال الزجاج : أعرب هذا الاسم كإعراب الجمع، هذه قنسرون، ورأيت قنسرين. وعليون : الملائكة، أو المواضع العلية، أو علم لديوان الخير الذي دون فيه كل ما علمته الملائكة وصلحاء الثقلين، أو علو في علو مضاعف، أقوال ثلاثة للزمخشري.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٣٩
وقال أبو مسلم :﴿كِتَابَ الابْرَارِ﴾ : كتابة أعمالهم، ﴿لَفِى عِلِّيِّينَ﴾. ثم وصف عليين بأنه ﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾ فيه جميع أعمال الأبرار. وإذا كان مكاناً فاختلفوا في تعيينه اختلافاً مضطرباً رغبنا عن ذكره. وإعراب ﴿لَفِى عِلِّيِّينَ﴾، و﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾ كإعراب ﴿لَفِى سِجِّينٍ﴾، و﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾. وقال ابن عطية : و﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾ في هذه الآية خبر إن والظرف ملغى. انتهى. هذا كما قال في ﴿لَفِى سِجِّينٍ﴾، وقد رددنا عليه ذلك وهذا مثله. والمقربون هنا، قال ابن عباس وغيره : هم الملائكة أهل كل سماء، ﴿يَنظُرُونَ﴾، قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد : إلى ما أعد لهم من الكرامات. وقال مقاتل : إلى أهل النار. وقيل : ينظر بعضهم إلى بعض. وقرأ الجمهور :﴿تَعْرِفُ﴾ بتاء الخطاب، للرسول صلى الله عليه وسلّم، أو للناظر. ﴿نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾، نصباً. وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وطلحة وشيبة ويعقوب والزعفراني : تعرف مبنياً للمفعول، نضرة رفعاً ؛ وزيد بن عليّ : كذلك، إلا أنه قرأ : يعرف بالياء، إذ تأنيث نضرة مجازي ؛ والنضرة تقدّم شرحها في قوله :﴿نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾. ﴿مَّخْتُومٍ﴾، الظاهر أن الرحيق ختم عليه تهمماً وتنظفاً بالرائحة المسكية، كما فسره ما بعده. وقيل : تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطينة. وقرأ الجمهور :﴿خِتَامُهُ﴾ : أي خلطه ومزاجه، قاله عبد الله وعلقمة. وقال ابن عباس وابن جبير والحسن : معناه خاتمته، أي يجد الرائحة عند خاتمة الشراب، رائحة المسك. وقال أبو عليّ : أي إبزاره المقطع وذكاء الرائحة مع طيب الطعم. وقيل : يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك. وفي الصحاح : الختام : الطين الذي يختم به، وكذا قال مجاهد وابن زيد : ختم إناؤه بالمسك بدل الطين، وقال الشاعر :
كأن مشعشعاً من خمر بصرىنمته البحث مشدود الختام
وقرأ عليّ والنخعي والضحاك وزيد بن عليّ : وأبو حيوة وابن أبي عبلة والكسائي : خاتمه، بعد الخاء ألف وفتح التاء، وهذه بينة المعنى، إنه يراد بها الطبع على الرحيق. وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي : كسر التاء، أي آخره مثل قوله :﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّانَ﴾، وفيه حذف، أي خاتم رائحته المسك ؛ أو خاتمه الذي يختم به ويقطع. ﴿مِن تَسْنِيمٍ﴾، قال عبد الله وابن عباس : هو أشرف شراب الجنة، وهو اسم مذكر لماء عين في الجنة. وقال الزمخشري :﴿تَسْنِيمٍ﴾ : علم لعين بعينها، سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه. و﴿عَيْنًا﴾ نصب على المدح. وقال الزجاج : على الحال. انتهى. وقال الأخفش : يسقون عيناً، ﴿يَشْرَبُ بِهَا﴾ : أي يشربها أو منها، أو ضمن يشرب معنى يروى بها أقوال. ﴿الْمُقَرَّبُونَ﴾،
٤٤٢
قال ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح : يشربها المقربون صرفاً ويمزج للأبرار. ومذهب الجمهور : الأبرار هم أصحاب اليمين، وأن المقرّبين هم السابقون. وقال قوم : الأبرار والمقرّبون في هذه الآية بمعنى واحد يقع لكل من نعم في الجنة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٣٩
وروي أن علياً وجمعاً معه من المؤمنين مروا بجمع من كفار قريش، فضحكوا منهم واستخفوا بهم عبثاً، فنزلت :﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ﴾، قبل أن يصل عليّ رضي الله تعالى عنه إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم، وكفار مكة هؤلاء قيل هم : أبو جهل، والوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل ؛ والمؤمنون : عمار، وصهيب، وخباب، وبلال، وغيرهم من فقراء المؤمنين. والظاهر أن الضمير في ﴿مَرُّوا ﴾ عائد على ﴿الَّذِينَ أَجْرَمُوا ﴾، إذ في ذلك تناسق الضمائر لواحد. وقيل : للمؤمنين، أي وإذا مرّ المؤمنون بالكافرين يتغامز الكافرون، أي يشيرون بأعينهم. و﴿فَكِهِينَ﴾ : أي متلذذين بذكرهم وبالضحك منهم. وقرأ الجمهور : فاكهين بالألف، أي أصحاب فاكهة ومزح وسرور باستخفافهم بأهل الإيمان ؛ وأبو رجاء والحسن وعكرمة وأبو جعفر وحفص : بغير ألف، والضمير المرفوع في ﴿رَأَوْهُمْ﴾ عائد على المجرمين، أي إذا رأوا المؤمنين نسبوهم إلى الضلال، وهم محقون في نسبتهم إليه.
﴿وَمَآ أُرْسِلُوا ﴾ على الكفار، ﴿حَافِظِينَ﴾. وفي الإشارة إليهم بأنهم ضالون إثارة للكلام بينهم. وكان في الآية بعض موادعة، أي إن المؤمنين لم يرسلوا حافظين على الكفار، وهذا على القول بأن هذا منسوخ بآية السيف. وقال الزمخشري : وإنهم لم يرسلوا عليهم حافظين، إنكاراً لصدّهم إياهم عن الشرك، ودعائهم إلى الإسلام، وجدهم في ذلك. ولما تقدّم ذكر يوم القيامة قيل :﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾، واليوم منصوب بيضحكون منهم في الآخرة، وينظرون حال من الضمير في يضحكون، أي يضحكون ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والعذاب بعد العزة والنعيم. وقال كعب لأهل الجنة : كوى ينظرون منها إلى أهل النار. وقيل : ستر شفاف بينهم يرون منه حالهم. ﴿هَلْ ثُوِّبَ﴾ : أي هل جوزي ؟ يقال : ثوبه وأثابه إذا جازاه، ومنه قول الشاعر :
سأجزيك أو يجزيك عني مثوبوحسبك أن يثني عليك وتحمد
وهو استفهام بمعنى التقرير للمؤمنين، أي هل جوزوا بها ؟ وقيل :﴿هَلْ ثُوِّبَ﴾ متعلق بينظرون، وينظرون معلق بالجملة في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجر الذي هو إلى. وقرأ الجمهور :﴿هَلْ ثُوِّبَ﴾ بإظهار لام هل ؛ والنحويان وحمزة وابن محيصن : بإدغامها في الثاء ؛ وفي قوله :﴿مَا كَانُوا ﴾ حذف تقديره جزاء أو عقاب :﴿مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٣٩


الصفحة التالية
Icon