﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ﴾، قال ابن جبير والجمهور : ألقت ما في بطنها من الأموات، وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء. وقيل : تخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها. وقال الزجاج : ومن الكنوز، وضعف هذا بأن ذلك يكون وقت خروج الدجال، وإنما تلقى يوم القيامة الموتى. ﴿وَتَخَلَّتْ﴾ : أي عن ما كان فيها، لم تتمسك منهم بشيء. وجاء تخلت : أي تكلفت أقصى جهدها في الخلو. كما تقول : تكرم الكريم : بلغ جهده في الكرم وتكلف فوق ما في طبعه، ونسبة ذلك إلى الأرض نسبة مجازيه، والله تعالى هو الذي أخرج تلك الأشياء من باطنها. وجواب إذا محذوف، فإما أن يقدره الذي خرج به في سورة التكوير أو الانفطار، أو ما يدل عليه :﴿إِنَّكَ كَادِحٌ﴾، أي لاقى كل إنسان كدحه. وقال الأخفش والمبرد : هو ملاقيه، إذا انشقت السماء فأنت ملاقيه. وقيل :﴿الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الانسَـانَ﴾، على حذف الفاء تقديره : فيا أيها الإنسان. وقيل :﴿وَأَذِنَتْ﴾ على زيادة الواو ؛ وعن الأخفش :﴿إِذَا السَّمَآءُ﴾ مبتدأ، خبره ﴿وَإِذَا الارْضُ﴾ على زيادة الواو، والعامل فيها على قول الأكثرين : الجواب إما المحذوف الذي قدروه، وإما الظاهر الذي قيل إنه جواب. قال ابن عطية : وقال بعض النحويين : العامل انشقت، وأبى ذلك كثير من أئمتهم، لأن إذا مضافة إلى انشقت، ومن يجيز ذلك تضعف عنده الإضافة ويقوى معنى الجزاء، انتهى. وهذا القول نحن نختاره، وقد استدللنا على صحته فيما كتبناه، والتقدير : وقت انشقاق السماء وقت مد الأرض. وقيل : لا جواب لها إذ هي قد نصبت باذكر نصب المفعول به، فليست شرطاً.
﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا﴾ : أي في إلقاء ما في بطنها وتخليها. والإنسان : يراد به الجنس، والتقسيم بعد ذلك يدل عليه. وقال مقاتل : المراد به الأسود بن عبد الأسد بن هلال المخزومي، جادل أخاه أبا سلمة في أمر البعث، فقال أبو سلمة : والذي خلقك لتركبن الطبقة ولتوافين العقبة. فقال الأسود فأين : الأرض والسماء وما جال الناس ؟ انتهى. وكان مقاتلاً يريد أنها نزلت في الأسود، وهي تعم الجنس. وقيل : المراد أبيّ بن خلف، كان يكدح في طلب الدنيا وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلّم والإصرار على الكفر. وأبعد من ذهب إلى أنه الرسول صلى الله عليه وسلّم، والمعنى : إنك تكدح في إبلاغ رسالات الله تعالى وإرشاد عباده واحتمال الضر من الكفار، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل، وهو غير ضائع عنده.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٤٣
﴿إِنَّكَ كَادِحٌ﴾ : أي جاهد في عملك من خير وشر إلى ربك، أي طول حياتك إلى لقاء ربك، وهو أجل موتك، ﴿فَمُلَـاقِيهِ﴾ : أي جزاء كدحك من ثواب وعقاب. قال ابن عطية : فالفاء على هذا عاطفة جملة الكلام على التي قبلها، والتقدير : فأنت ملاقيه، ولا يتعين ما قاله، بل يصح أن يكون معطوفاً على كادح عطف المفردات. وقال الجمهور : الضمير في ملاقيه عائد على ربك، أي فملاقي جزائه، فاسم الفاعل معطوف على اسم الفاعل. ﴿حِسَابًا يَسِيرًا﴾ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : يقرر ذنوبه ثم يتجاوز عنه. وقال الحسن : يجازي بالحسنة ويتجاوز عن السيئة. وفي الحديث :"من حوسب عذب"، فقالت عائشة : ألم يقل الله تعالى ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ ؟ فقال عليه الصلاة والسلام :"إنما ذلك العرض، وأما من نوقش الحساب فيهلك".
﴿وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ﴾ : أي إلى من أعد الله له في الجنة من نساء المؤمنات ومن الحور العين، أو إلى عشيرته المؤمنين، فيخبرهم بخلاصه وسلامته، أو إلى المؤمنين، إذ هم كلهم أهل إيمان. وقرأ زيد بن علي : ويقلب مضارع قلب مبنياً للمفعول.
﴿وَرَآءَ ظَهْرِهِ﴾ : روي أن شماله تدخل من صدره حتى تخرج من وراء ظهره، فيأخذ كتابه بها. قال ابن عطية : وأما من ينفذ عليه الوعيد من عصاتهم، يعني عصاة المؤمنين، فإنه يعطى كتابه عند خروجه من النار. وقد جوز قوم أن يعطاه أولاً قبل دخوله النار، وهذه الآية ترد على هذا القول، انتهى. والظاهر من الآية
٤٤٦
أن الإنسان انقسم إلى هذين القسمين ولم يتعرض للعصاة الذين يدخلهم الله النار. ﴿يَدْعُوا ثُبُورًا﴾ : يقول : واثبوراه، والثبور : الهلاك، وهو جامع لأنواع المكاره. وقرأ قتادة وأبو جعفر وعيسى وطلحة والأعمش وعاصم وأبو عمرو وحمزة :﴿وَيَصْلَى ﴾ بفتح الياء مبنياً للفاعل ؛ وباقي السبعة وعمر بن عبد العزيز وأبو الشعثاء والحسن والأعرج : بضم الياء وفتح الصاد واللام مشددة ؛ وأبو الأشهب وخارجة عن نافع، وأبان عن عاصم، وعيسى أيضاً والعتكي وجماعة عن أبي عمرو : بضم الياء ساكن الصاد مخفف اللام، بني للمفعول من المتعدي بالهمزة، كما بني ويصلى المشدد للمفعول من المتعدي بالتضعيف.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٤٣


الصفحة التالية
Icon