﴿سَبِّحِ﴾ : نزّه عن النقائص، ﴿اسْمَ رَبِّكَ﴾ : الظاهر أن التنزيه يقع على الاسم، أي نزهه عن أن يسمى به صنم أو وثن فيقال له رب أو إله، وإذا كان قد أمر بتنزيهه اللفظ أن يطلق على غيره فهو أبلغ، وتنزيه الذات أحرى. وقيل : الاسم هنا بمعنى المسمى. وقيل : معناه نزّه اسم الله عن أن تذكره إلا وأنت خاشع. وقال ابن عباس : المعنى صلّ باسم ربك الأعلى، كما تقول : ابدأ باسم ربك، وحذف حرف الجر. وقيل : لما نزل ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"اجعلوها في ركوعكم". فلما نزل :﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى﴾، قال :"اجعلوها في سجودكم". وكانوا يقولون في الركوع : اللهم لك ركعت، وفي السجود : اللهم لك سجدت. قالوا :﴿الاعْلَى ﴾ يصح أن يكون صفة لربك، وأن يكون صفة لاسم فيكون منصوباً، وهذا الوجه لا يصح أن يعرب ﴿الَّذِى خَلَقَ﴾ صفة لربك، فيكون في موضع جر لأنه قد حالت بينه وبين الموصوف صفة لغيره. لو قلت : رأيت غلام هند العاقل الحسنة، لم يجز ؛ بل لا بد أن تأتي بصفة هند، ثم تأتي بصفة الغلام فتقول : رأيت غلام هند الحسنة العاقل. فإن لم يجعل الذي صفة لربك، بل ترفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أو تنصبه على المدح، جاز أن يكون الأعلى صفة لاسم.
﴿الَّذِى خَلَقَ﴾ : أي كل شيء، ﴿فَسَوَّى ﴾ : أي لم يأت متفاوتاً بل متناسباً على إحكام وإتقان، دلالة على أنه صادر عن عالم حكيم. وقرأ الجمهور :﴿قُدِرَ﴾ بشد الدال، فاحتمل أن يكون من القدر والقضاء، واحتمل أن يكون من التقدير والموازنة بين الأشياء. وقال الزمخشري : قدّر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به، انتهى. وقرأ الكسائي : قدر مخفف الدال من القدرة أو من التقدير والموازنة، وهدى عام لجميع الهدايات. وقال الفرّاء : فهدى وأضل، اكتفى بالواحدة عن الأخرى. وقال الكلبي ومقاتل : هدى الحيوان إلى وطء الذكور للإناث. وقال مجاهد : هدى الإنسان للخير والشر، والبهائم للمراتع. وقيل : هدى المولود عند وضعه إلى مص الثدي، وهذه الأقوال محمولة على التمثيل لا على التخصيص. والظاهر أن أحوى صفة لغثاء. قال ابن عباس : المعنى ﴿فَجَعَلَه غُثَآءً أَحْوَى ﴾ : أي أسود، لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسود وتعفن فصار أحوى. وقيل : أحوى حال من المرعى، أي أحرى المرعى أحوى، أي للسواد من شدّة خضرته ونضارته لكثرة ريه، وحسن تأخير أحوى لأجل الفواصل، وقال :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٥٧
وغيث من الوسمي حوتلاعهتبطنته بشيظم صلتان
﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى ﴾، قال الحسن وقتادة ومالك : هذا في معنى ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِا لِسَانَكَ﴾. وعده الله أن يقرئه، وأخبره أنه لا ينسى، وهذه آية للرسول صلى الله عليه وسلّم في أنه أمّيّ، وحفظ الله عليه الوحي، وأمنه من نسائه. وقيل : هذا وعد بإقراء السور، وأمر أن لا ينسى على معنى التثبيت والتأكيد، وقد علم أن النسيان ليس في قدرته، فهو نهي عن إغفال التعاهد، وأثبتت الألف في ﴿فَلا تَنسَى ﴾، وإن كان مجزوماً بلا التي للنهي لتعديل رءوس الآي.
﴿إِلا مَا شَآءَ اللَّهُ﴾، الظاهر أنه استثناء مقصود. قال الحسن وقتادة وغيرهما : مما قضى الله نسخه، وأن ترتفع تلاوته وحكمه. وقال ابن عباس : إلا ما شاء الله أن ينسيك
٤٥٨
لتسن به، على نحو قوله عليه الصلاة والسلام :"أني لأنسى وأنسى لأسن". وقيل : إلا ما شاء الله أن يغلبك النسيان عليه، ثم يذكرك به بعد، كما قال عليه الصلاة والسلام، حين سمع قراءة عباد بن بشير :"لقد ذكرني كذا وكذا آية في سورة كذا وكذا". وقيل :﴿فَلا تَنسَى ﴾ : أي فلا تترك العمل به إلا ما شاء الله أن تتركه بنسخه إياه، فهذا في نسخ العمل. وقال الفراء وجماعة : هذا استثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى في الاستثناء، وليس ثم شيء أبيح استثناؤه.
وأخذ الزمخشري هذا القول فقال : وقال : إلا ما شاء الله، والغرض نفي النسيان رأساً، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت سهيمي فيما أملك إلا ما شاء الله، ولا يقصد استثناء شيء، وهو من استعمال القلة في معنى النفي، انتهى. وقول الفراء والزمخشري يجعل الاستثناء كلا استثناء، وهذا لا ينبغي أن يكون في كلام الله تعالى، بل ولا في كلام فصيح. وكذلك القول بأن لا في ﴿فَلا تَنسَى ﴾ للنهي، والألف ثابتة لأجل الفاصلة، وهذا قول ضعيف. ومفهوم الآية في غاية الظهور، وقد تعسفوا في فهمها. والمعنى أنه تعالى أخبر أنه سيقرئه، وأنه لا ينسى إلا ما شاء الله، فإنه ينساه إما النسخ، وإما أن يسن، وإما على أن يتذكر. وهو صلى الله عليه وسلّم معصوم من النسيان فيما أمر بتبليغه، فإن وقع نسيان، فيكون على وجه من الوجوه الثلاثة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٥٧