﴿قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُوا ﴾ : نزلت في صدر الإسلام. أمر المؤمنين أن يتجاوزوا عن الكفار، وأن لا يعاقبوهم بذنب، بل يصبرون لهم، قاله السدّي ومحمد بن كعب، قيل : وهي محكمة، والأكثر على أنها منسوخة بآية السيف. يغفروا، في جزمه أوجه للنحاة، تقدّمت في :﴿قُل لِّعِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاوةَ﴾ في سورة إبراهيم. ﴿لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾ : أي وقائعه بأعدائه ونقمته منهم. وقال مجاهد : وقيل أيام إنعامه ونصره وتنعيمه في الجنة وغير ذلك. وقيل : لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز. قيل : نزلت قبل آية القتال ثم نسخ حكمها. وتقدم قول ابن عباس أنها نزلت في عمر بن الخطاب ؛ قيل : سبه رجل من الكفار، فهم أن يبطش به، وقرأ الجمهور : ليجزي الله، وزيد بن عليّ، وأبو عبد الرحمن، والأعمش، وأبو علية، وابن عامر، وحمزة، والكسائي : بالنون ؛ وشيبة، وأبو جعفر : بخلاف عنه بالياء مبنياً للمفعول. وقد روي ذلك عن عاصم، وفيه حجة لمن أجاز بناء الفعل للمفعول، على أن يقام المجرور، وهو بما، وينصب المفعول به الصريح، وهو قوماً ؛ ونظيره : ضرب بسوط زيداً ؛ ولا يجير ذلك الجمهور. وخرجت هذه القراءة على أن يكون بني الفعل للمصدر، أي وليجزي الجزاء قوماً. وهذا أيضاً لا يجوز عند الجمهور، لكن يتأول على أن ينصب بفعل محذوف تقديره يجزى قوماً، فيكون جملتان، إحداهما : ليجزي الجزاء قوماً، والأخرى : يجزيه قوماً ؛ وقوماً هنا يعني به الغافرين، ونكره على معنى التعظيم لشأنهم، كأنه قيل : قوماً، أي قوم من شأنهم التجاوز عن السيئات والصفح عن المؤذيات وتحمل الوحشة. وقيل : هم الذين لا يرجون أيام الله، أي بما كانوا يكسبون من الإثم، كأنه قيل : لم تكافئوهم أنتم حتى نكافئهم نحن.
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا﴾ كهؤلاء الغافرين، ﴿وَمَنْ أَسَآءَ﴾ كهؤلاء الكفار، وأتى باللام في فلنفسه، لأن المحاب والحظوظ تستعمل فيها على الدالة على العلو والقهر، كما تقول : الأمور لزيد متأتية وعلى عمرو مستصعبة. والكتاب : التوراة، والحكم : القضاء، وفصل الأمور لأن الملك كان فيهم. قيل : والحكم : الفقه. ويقال : لم يتسع فقه الأحكام على نبي، كما اتسع على لسان موسى من الطيبات المستلذات الحلال، وبذلك تتم النعمة، وذلك المن والسلوى وطيبات الشام، إذ هي الأرض المباركة. بينات : أي دلائل واضحة من الأمر، أي من الوحي الذي فصلت به الأمور. وعن ابن عباس : من الأمر، أي من أمر النبي صلى الله عليه وسلّم، وأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب. وقيل معجزات موسى. ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ﴾ : تقدم تفسيره في الشورى.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤١
﴿جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الامْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْاًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍا وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ * هذا بَصَائرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ﴾.
لما ذكر تعالى إنعامه على بني إسرائيل واختلافهم بعد ذلك، ذكر حال نبيه عليه الصلاة والسلام وما منّ به عليه من اصطفائه فقال :﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الامْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ﴾. قال قتادة : الشريعة : الأمر، والنهي، والحدود، والفرائض. وقال مقاتل : البينة، لأنها طريق إلى الحق. وقال الكلبي : السنة، لأنه كان يستن بطريقة من قبله من الأنبياء. وقال ابن زيد : الدّين، لأنه طريق إلى النجاة. والشريعة في كلام العرب : الموضع الذي يرد فيه الناس في الأنهار والمياه، ومنه قول الشاعر :
وفي الشرائع من جيلان مقتصرث الثياب خفي الشخص منسرب
فشريعة الدّين من ذلك، من حيث يرد الناس أمر الله ورحمته والقرب منه، من الأمور التي من دين الله الذي بعثه في عباده في الزمان السالف ؛ أو يكون مصدر أمر، أي من الأمر والنهي، وسمي النهي أمراً. ﴿أَهْوَآءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾، قيل : جهال قريظة والنضير. وقيل : رؤساء قريش، حين قالوا : رجع إلى دين آبائك. ﴿هَاذَا بَصَائرُ﴾ : أي هذا القرآن ؛ جعل ما نافية من معالم الدين، بصائر للقلوب، كما جعل روحاً وحياة. وقرىء : هذى، أي هذه الآيات. ﴿أَمْ حَسِبَ﴾ : أم منقطعة تتقدر ببل والهمزة، وهو استفهام
٤٦


الصفحة التالية
Icon