﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ﴾ : أي مساعيكم، ﴿لَشَتَّى ﴾ : لمتفرقة مختلفة، ثم فصل هذا السعي. ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى ﴾ الآية : روي أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، كان يعتق ضعفة عبيده الذين أسلموا، وينفق في رضا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ماله، وكان الكفار بضدّه. قال عبد الله بن أبي أوفى : نزلت هذه السورة في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وأبي سفيان بن حرب. وقال السدّي : نزلت في أبي الدحداح الأنصاري بسبب ما كان يعلق في المسجد صدقة، وبسبب النخلة التي اشتراها من المنافق بحائط له، وكان الرسول صلى الله عليه وسلّم ساوم المنافق في شرائها بنخلة في الجنة، وذلك بسبب الأيتام الذين كانت النخلة تشرف على بيتهم، فيسقط منها الشيء فتأخذه الأيتام، فمنعهم المنافق، فأبى عليه المنافق، فجاء أبو الدحداح وقال : يا رسول الله أنا أشتري النخلة التي في الجنة بهذه، وحذف مفعولي أعطى، إذ المقصود الثناء على المعطى دون تعرض للمعطى والعطية. وظاهره بذل المال في واجب ومندوب ومكرمة. وقال قتادة : أعطى حق الله. وقال ابن زيد : أنفق ماله في سبيل الله. ﴿وَاتَّقَى ﴾، قال ابن عباس : اتقى الله. وقال مجاهد : واتقى البخل. وقال قتادة : واتقى ما نهي عنه. ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾، صفة تأنيث الأحسن. فقال ابن عباس وعكرمة وجماعة : هي الحلف في الدنيا الوارد به وعد الله تعالى. وقال مجاهد والحسن وجماعة : الجنة. وقال جماعة : الثواب. وقال السلمي وغيره : لا إله إلا الله.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٨٢
﴿فَسَنُيَسِّرُه لِلْيُسْرَى ﴾ : أي نهيئة للحالة التي هي أيسر عليه وأهون وذلك في الدنيا والآخرة. وقابل أعطى ببخل، واتقى باستغنى، لأنه زهد فيما عند الله بقوله :﴿وَاسْتَغْنَى ﴾، ﴿لِلْعُسْرَى ﴾، وهي الحالة السيئة في الدنيا والآخرة. وقال الزمخشري : فسنخذله ونمنعه الألطاف حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشد كقوله :﴿يَجْعَلْ صَدْرَه ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ﴾، إذ سمى طريقة الخير باليسرى لأن عاقبتها اليسر، وطريقة الشر العسرى لأن عاقبتها العسر، أو أراد بهما طريقي الجنة والنار، أي فسنهديهما في الآخرة للطريقين. انتهى، وفي أول كلامه دسيسة الاعتزال. وجاء ﴿فَسَنُيَسِّرُه لِلْعُسْرَى ﴾ على سبيل المقابلة لقوله :﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ﴾، والعسرى لا تيسير فيها، وقد يراد بالتيسير التهيئة، وذلك يكون في اليسرى والعسرى. ﴿وَمَا يُغْنِى﴾ : يجوز أن تكون ما نافية واستفهامية، أي : وأي شيء يغني عنه ماله ؟ ﴿إِذَا تَرَدَّى ﴾ : تفعل من الرّدى، أي هلك،
٤٨٣
قاله مجاهد، وقال قتادة وأبو صالح : تردى في جهنم : أي سقط من حافاتها. وقال قوم : تردى بأكفانه، من الردى، وقال مالك بن الذئب :
وخطا بأطراف الأسنة مضجعيورداً على عينيّ فضل ردائيا
وقال آخر :
نصيبك مما تجمع الدهر كلهرداءان تلوي فيهما وحنوط
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٨٢
﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾ : التعريف بالسبيل ومنحهم الإدراك، كما قال تعالى :﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾. وقال الزمخشري : إن الإرشاد إلى الحق واجب علينا بنصب الدلائل وبيان الشرائع. ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلاخِرَةَ وَالاولَى ﴾ : أي ثواب الدارين، لقوله تعالى :﴿وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾. وقرأ ابن الزبير وزيد بن عليّ وطلحة وسفيان بن عيينة وعبيد بن عمير : تتلطى بتاءين، والبزي بتاء مشدّدة، والجمهور : بتاء واحدة. وقال الزمخشري : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين، فقيل :﴿الاشْقَى﴾، وجعل مختصاً بالصلى، كأن النار لم تخلق إلا له. وقال :﴿الاتْقَى﴾، وجعل مختصاً بالنجاة وكأن الجنة لم تخلق إلا له. وقيل : هما أبو جهل، أو أمية بن خلف وأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. ﴿يَتَزَكَّى ﴾، من الزكاة : أي يطلب أن يكون عند الله زاكياً، لا يريد به رياء ولا سمعة، أو يتفعل من الزكاة، انتهى. وقرأ الجمهور :﴿يَتَزَكَّى ﴾ مضارع تزكى. وقرأ الحسن بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم : بإدغام التاء في الزاي، ويتزكى في موضع الحال، فموضعه نصب. وأجاز الزمخشري أن لا يكون له موضع من الإعراب لأنه جعله بدلاً من صلة الذي، وهو ﴿يُؤْتِى﴾، قاله : وهو إعراب متكلف، وجاء ﴿تُجْزَى ﴾ مبنياً للمفعول لكونه فاصلة، وكان أصله نجزيه إياها أو نجزيها إياه. وقرأ الجمهور :﴿إِلا ابْتِغَآءَ﴾ بنصب الهمزة، وهو استثناء منقطع لأنه ليس داخلاً في ﴿مِن نِّعْمَةٍ﴾. وقرأ ابن وثاب : بالرفع على البدل في موضع نعمة لأنه رفع، وهي لغة تميم، وأنشد بالوجهين قول بشر بن أبي حازم :
أضحت خلاء قفاراً لا أنيس بهاإلا الجآذر والظلمات تختلف
وقال الراجز في الرفع :
وبلدة ليس بها أنيسإلا اليعافير وإلا العيس
وقرأ ابن أبي عبلة :﴿إِلا ابْتِغَآءَ﴾، مقصوراً. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ابتغاء وجه الله مفعولاً له على المعنى، لأن معنى الكلام لا يؤتى ماله إلا ابتغاء وجه ربه، لا لمكافأة نعمه، انتهى. وهذا أخذه من قول الفراء. قال الفراء : ونصب على تأويل ما أعطيك ابتغاء جزائك، بل ابتغاء وجه الله. ﴿وَلَسَوْفَ يَرْضَى ﴾ : وعد بالثواب الذي يرضاه. وقرأ الجمهور :﴿يَرْضَى ﴾ بفتح الياء، وقرىء : بضمها، أي يرضى فعله، يرضاه الله ويجازيه عليه.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٨٢