سورة الضحى
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٨٣٤٨٤
سجا الليل : أدبر، وقيل : أقبل، ومنه :
يا حبذا القمراء والليل الساجوطرق مثل ملاء النساج
وبحر ساج : ساكن، قال الأعشى :
وما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكموبحرك ساج لا يوارى الدعامصا
وطرف ساج : غيره مضطرب بالنظر. وقال الفراء : سجا الليل : أظلم وركد. وقال ابن الأعرابي : سجا الليل : اشتد ظلامه.
﴿وَالضُّحَى * وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلاخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَاَاوَى * وَوَجَدَكَ ضَآلا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَآاِلا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّآاِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾.
هذه السورة مكية. ولما ذكر فيما قبلها ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الاتْقَى﴾، وكان سيد الأتقين رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ذكر تعالى هنا نعمه عليه. وقرأ الجمهور ﴿مَا وَدَّعَكَ﴾ بتشديد الدال ؛ وعروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة : بخفها، أي ما تركك. واستغنت العرب في فصيح كلامها بترك عن ودع ووذر، وعن اسم فاعلهما بتارك، وعن اسم مفعولهما بمتروك، وعن مصدرهما بالترك، وقد سمع ودع ووذر. قال أبو الأسود :
ليت شعري عن خليلي ما الذيغاله في الحب حتى ودعه
وقال آخر :
وثم ودعنا آل عمرو وعامرفرائس أطراف المثقفة السمر
والتوديع مبالغة في الودع، لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك. ﴿وَمَا قَلَى ﴾ : ما أبغضك، واللغة الشهيرة في مضارع قلى يقلى، وطيىء تعلى بفتح العين وحذف المفعول اختصاراً في ﴿قَلَى ﴾، وفي ﴿فَاَاوَى ﴾ وفي ﴿فَهَدَى ﴾، وفي ﴿فَأَغْنَى ﴾، إذ يعلم أنه ضمير المخاطب، وهو الرسول صلى الله عليه وسلّم. قال ابن عباس وغيره : أبطأ الوحي مرة على الرسول صلى الله عليه وسلّم وهو بمكة، حتى شق ذلك عليه، فقالت أم جميل، امرأة أبي لهب : يا محمد ما أرى شيطانك إلا تركك ؟ فنزلت. وقال زيد بن أسلم : إنما احتبس عنه جبريل عليه السلام لجرو كلب كان في بيته.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٨٤
﴿وَلَلاخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاولَى ﴾ : يريد الدارين، قاله ابن إسحاق وغيره.
٤٨٥
ويحتمل أن يريد حالتيه قبل نزول السورة وبعدها، وعده تعالى بالنصر والظفر، قاله ابن عطية اهتمالاً. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف اتصل قوله :﴿وَلَلاخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاولَى ﴾ بما قبله ؟ قلت : لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أن الله مواصلك بالوحي إليك، وأنك حبيب الله، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك، ولا نعمة أجل منه، أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك وأجل، وهو السبق والتقدم على جميع أنبياء الله ورسله، وشهادة أمته على سائر الأمم، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته. ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾، قال الجمهور : ذلك في الآخرة. وقال ابن عباس : رضاه أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار. وقال أيضاً : رضاه أنه وعده بألف قصر في الجنة بما تحتاج إليه من النعم والخدم. وقيل : في الدنيا بفتح مكة وغيره، والأولى أن هذا موعد شامل لما أعطاه في الدنيا من الظفر، ولما ادخر له من الثواب. واللام في ﴿وَلَلاخِرَةُ﴾ لام ابتداء أكدت مضمون الجملة، وكذا في ﴿وَلَسَوْفَ﴾ على إضمار مبتدأ، أي ولأنت سوف يعطيك.
ولما وعده هذا الموعود الجليل، ذكره بنعمه عليه في حال نشأته. ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ﴾ : يعلمك، ﴿يَتِيمًا﴾ : توفي أبوه عليه الصلاة والسلام وهو جنين، أتت عليه ستة أشهر وماتت أمه عليه الصلاة والسلام وهو ابن ثماني سنين، فكفله عمه أبو طالب فأحسن تربيته. وقيل لجعفر الصادق : لم يتم النبي صلى الله عليه وسلّم من أبويه ؟ فقال : لئلا يكون عليه حق لمخلوق. قال الزمخشري : ومن يدع التفاسير أنه من قولهم درّة يتيمة، وأن المعنى : ألم يجدك واحداً في قريش عديم النظير فآواك، انتهى. وقرأ الجمهور :﴿فَاَاوَى ﴾ رباعياً ؛ وأبو الأشهب العقيلي : فأوى ثلاثياً، بمعنى رحم. تقول : أويت لفلان : أي رحمته، ومنه قول الشاعر :
أراني ولا كفران لله أنهلنفسي قد طالبت غير منيل
﴿وَوَجَدَكَ ضَآلا﴾ : لا يمكن حمله على الضلال الذي يقابله الهدى، لأن الأنبياء معصومون من ذلك. قال ابن عباس : هو ضلاله وهو في صغره في شعاب مكة، ثم رده الله إلى جده عبد المطلب. وقيل : ضلاله من حليمة مرضعته. وقيل : ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب، ولبعض المفسرين أقوال فيها بعض ما لا يجوز نسبته إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ولقد رأيت في النوم أني أفكر في هذه الجملة فأقول على الفور :﴿وَوَجَدَكَ﴾، أي وجد رهطك، ﴿ضَآلا﴾، فهداه بك. ثم أقول : على حذف مضاف، نحو :﴿وَسْاَلِ الْقَرْيَةَ﴾. وقرأ الجمهور :﴿عَآاِلا﴾ : أي فقيراً. قال جرير :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٨٤
الله نزل في الكتاب فريضةلابن السبيل وللفقير العائل
كرر لاختلاف اللفظ. وقرأ اليماني : عيّلاً، كسيّدٍ، بتشديد الياء المكسورة، ومنه قول أجيحة بن الحلاج :
وما يدري الفقير متى غناهوما يدري الغني متى يعيل
عال : افتقر، وأعال : كثر عياله. قال مقاتل :﴿فَأَغْنَى ﴾ رضاك بما أعطاك من الرزق. وقيل : أغناك بالقناعة والصبر. وقيل : بالكفاف. ولما عدد عليه هذه النعم الثلاث، وصاه بثلاث كأنها مقابلة لها. ﴿فَلا تَقْهَرْ﴾، قال مجاهد : لا تحتقر. وقال ابن سلام : لا تستزله. وقال سفيان : لا تظلمه بتضييع ماله. وقال الفراء : لا تمنعه حقه، والقهر هو التسليط بما يؤذي. وقرأ الجمهور :﴿تَقْهَرْ﴾ بالقاف ؛ وابن مسعود وإبراهيم التيمي : بالكاف بدل القاف، وهي لغة بمعنى قراءة الجمهور. ﴿وَأَمَّا السَّآاِلَ﴾ : ظاهره المستعطي، ﴿فَلا تَنْهَرْ﴾ : أي تزجره، لكن أعطه أو رده رداً جميلاً. وقال قتادة : لا تغلظ عليه، وهذه في مقابلة ﴿وَوَجَدَكَ عَآاِلا فَأَغْنَى ﴾ ؛ فالسائل، كما قلنا : المستعطي، وقاله الفراء وجماعة. وقال أبو الدرداء والحسن وغيرهما :
٤٨٦
السائل هنا : السائل عن العلم والدين، لا سائل المال، فيكون بإزاء ﴿وَوَجَدَكَ ضَآلا فَهَدَى ﴾.
﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾، قال مجاهد والكلبي : معناه بث القرآن وبلغ ما أرسلت به. وقال محمد بن إسحاق : هي النبوة. وقال آخرون : هي عموم في جميع النعم. وقال الزمخشري : التحديث بالنعم : شكرها وإشاعتها، يريد ما ذكره من نعمة الإيواء والهداية والإغناء وما عدا ذلك، انتهى. ويظهر أنه لما تقدم ذكر الامتنان عليه بذكر الثلاثة، أمره بثلاثة : فذكر اليتيم أولاً وهي البداية، ثم ذكر السائل ثانياً وهو العائل، وكان أشرف ما امتن به عليه هي الهداية، فترقى من هذين إلى الأشرف وجعله مقطع السورة، وإنما وسط ذلك عند ذكر الثلاثة، لأنه بعد اليتيم هو زمان التكليف، وهو عليه الصلاة والسلام معصوم من اقتراف ما لا يرضي الله عز وجل في القول والفعل والعقيدة، فكان ذكر الامتنان بذلك على حسب الواقع بعد اليتيم وحالة التكليف، وفي الآخر ترقى إلى الأشرف، فهما مقصدان في الخطاب.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٤٨٤