﴿وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا﴾ : جعل ما في بطنها أثقالاً. وقال النقاش والزجاج والقاضي منذر بن سعيد : أثقالها : كنوزها وموتاها. ورد بأن الكنوز إنما تخرج وقت الدجال، لا يوم القيامة، وقائل ذلك يقول : هو الزلزال يكون في الدنيا، وهو من أشراط الساعة، وزلزال : يوم القيامة، كقوله :﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ﴾، فلا يرد عليه بذلك، إذ قد أخذ الزلزال عاماً باعتبار وقتيه. ففي الأول أخرجت كنوزها، وفي الثاني أخرجت موتاها، وصدقت أنها زلزلت زلزالها وأخرجت أثقالها. وقيل أثقالها كنوزها ومنه قوله ﴿تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾ أمثال الأسطوان من الذهب والفضة. وقال ابن عباس : موتاها، وهو إشارة إلى البعث وذلك عند النفخة الثانية، فهو زلزال يوم القيامة، لا الزلزال الذي هو من الأشراط.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٠٠
﴿الارْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الانسَانُ مَا لَهَا﴾ : يعني معنى التعجب لما يرى من الهول، والظاهر عموم الإنسان. وقيل : ذلك الكافر لأنه يرى ما لم يقع في ظنه قط ولا صدقة، والمؤمن، وإن كان مؤمناً بالبعث، فإنه استهول المرأى. وفي الحديث :"ليس الخبر كالعيان". قال الجمهور : الإنسان هو الكافر يرى ما لم يظن. ﴿يَوْمَاِذٍ﴾ : أي يوم إذ زلزلت وأخرجت تحدث، ويومئذ بدل من إذا، فيعمل فيه لفظ العامل في المبدل منه، أو المكرر على الخلاف في العامل في البدل. ﴿تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ : الظاهر أنه تحديث وكلام حقيقة بأن يخلق فيها حياة وإدراكاً، فتشهد بما عمل عليها من صالح أو فاسد، وهو قول ابن مسعود والثوري وغيرهما. ويشهد له ما جاء في الحديث :"بأنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة"، وما جاء في الترمذي عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قرأ هذه الآية ثم قال :"أتدرون ما أخبارها" ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، فقال :"إن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول
٥٠٠
عمل كذا يوم كذا وكذا، قال فهذه أخبارها". هذا حديث حسن صحيح غريب.
قال الطبري : وقوم التحديث مجاز عن إحداث الله تعالى فيها الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان، حتى ينظر من يقول ما لها إلى تلك الأحوال، فيعلم لم زلزلت، ولم لفظت الأموات، وأن هذا ما كانت الأنبياء يندوا به ويحدثون عنه. وقال يحيى بن سلام : تحدث بما أخرجت من أثقالها، وهذا هو قول من زعم أن الزلزلة هي التي من أشراط الساعة. وفي سنن ابن ماجه حديث في آخره تقول الأرض يوم القيامة : يا رب هذا ما استودعتني". وعن ابن مسعود : تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها، فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى، وأمر الآخرة قد أتى، فيكون ذلك جواباً لهم عند سؤالهم. وتحدث هنا تتعدى إلى اثنين، والأول محذوف، أي تحدث الناس، وليست بمعنى اعلم المنقولة من علم المتعدية إلى اثنين فتتعدى إلى ثلاثة.
﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ : أي بسبب إيحاء الله، فالباء متعلقة بتحدث. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : يومئذ تحدث بتحديث أن ربك أوحى لها أخبارها، على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها تحديث أخبارها، كما تقول : نصحتني كل نصيحة بأن نصحتني في الدين. انتهى، وهو كلام فيه عفش ينزه القرآن عنه. وقال أيضاً : ويجوز أن يكون ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ﴾ بدلاً من ﴿أَخْبَارَهَا﴾، كأنه قيل : يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لها، لأنك تقول : حدثته كذا وحدثته بكذا، انتهى.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٠٠
وإذا كان الفعل تارة يتعدى بحرف جر، وتارة يتعدى بنفسه، وحرف الجر ليس بزائد، فلا يجوز في تابعه إلا الموافقة في الإعراب. فلا يجوز استغفرت الذنب العظيم، بنصب الذنب وجر العظيم لجواز أنك تقول من الذنب، ولا اخترت زيداً الرجال الكرام، بنصب الرجال وخفض الكرام. وكذلك لا يجوز أن تقول : استغفرت من الذنب العظيم، بجر الذنب ونصب العظيم، وكذلك في اخترت. فلو كان حرف الجر زائداً، جاز الاتباع على موضع الاسم بشروطه المحررة في علم النحو، تقول : ما رأيت من رجل عاقلاً، لأن من زائدة، ومن رجل عاقل على اللفظ. ولا يجوز نصب رجل وجر عاقل على مراعاة جواز دخول من، وإن ورد شيء من ذلك فبابه الشعر. وعدى أوحى باللام لا بإلى، وإن كان المشهور تعديتها بإلى لمراعاة الفواصل. قال العجاج يصف الأرض :
أوحى لها القرار فاستقرتوشدها بالراسيات الثبت
فعداها باللام. وقيل : الموحى إليه محذوف، أي أوحى إلى ملائكته المصرفين أن تفعل في الأرض تلك الأفعال. واللام في لها للسبب، أي من أجلها ومن حيث الأفعال فيها. وإذا كان الإيحاء إليها، احتمل أن يكون وحي إلهام، واحتمل أن يكون برسول من الملائكة. ﴿يَوْمَاِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ﴾ : انتصب يومئذ بيصدر، والصدر يكون عن ورد. وقال الجمهور : هو كونهم في الأرض مدفونين، والصدر قيامهم للبعث، و﴿أَشْتَاتًا ﴾ : جمع شت، أي فرقاً مؤمن وكافر وعاص سائرون إلى العرض، ﴿لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾. وقال النقاش : الصدر قوم إلى الجنة وقوم إلى النار، ووردهم هو ورد المحشر. فعلى الأول المعنى : ليرى عمله ويقف عليه، وعلى قول النقاش : ليرى جزاء عمله وهو الجنة والنار. والظاهر تعلق ﴿لِّيُرَوْا ﴾ بقوله ﴿يُصْدِرَ﴾. وقيل : بأوحى لها وما بينهما اعتراض. وقال ابن عباس : أشتاتاً : متفرقين على قدر أعمالهم، أهل الأيمان على حدة، وأهل كل دين على حدة. وقال الزمخشري : أشتاتاً : بيض الوجوه آمنين، وسود الوجوه فزعين، انتهى. ويحتمل أن يكون أشتاتاً، أي كل واحد وحده، لا ناصر له ولا عاضد، كقوله تعالى :﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٠٠
وقرأ الجمهور :﴿لِّيُرَوْا ﴾ بضم الياء ؛ والحسن والأعرج وقتادة وحماد بن سلمة
٥٠١
والزهري وأبو حيوة وعيسى ونافع في رواية : بفتحها، والظاهر تخصيص العامل، أي ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا﴾ من السعداء، لأن الكافر لا يرى خيراً في الآخرة، وتعميم ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا﴾ من الفريقين، لأنه تقسم جاء بعد قوله :﴿يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾. وقال ابن عباس : قال هذه الأعمال في الآخرة، فيرى الخير كله من كان مؤمناً، والكافر لا يرى في الآخرة خيراً لأن خيره قد عجل له في دنياه، والمؤمن تعجل له سيآته الصغائر في دنياه في المصائب والأمراض ونحوها، وما عمل من شر أو خير رآه. ونبه بقوله :﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ على أن ما فوق الذرة يراه قليلاً كان أو كثيراً، وهذا يسمى مفهوم الخطاب، وهو أن يكون المذكور والمسكوت عنه في حكم واحد، بل يكون المسكوت عنه بالأولى في ذلك الحكم، كقوله :﴿فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾. والظاهر انتصاب خيراً وشراً على التمييز، لأن مثقال ذرة مقدار. وقيل : بدل من مثقال. وقرأ الجمهور : بفتح الياء فيهما، أي يرى جزاءه من ثواب وعقاب. وقرأ الحسين بن علي وابن عباس وعبد الله بن مسلم وزيد بن علي والكلبي وأبو حيوة وخليد بن نشيط وأبان عن عاصم والكسائي في رواية حميد بن الربيع عنه : بضمها ؛ وهشام وأبو بكر : بسكون الهاء فيهما ؛ وأبو عمرو : بضمهما مشبعتين ؛ وباقي السبعة : بإشباع الأولى وسكون الثانية، والإسكان في الوصل لغة حكاها الأخفش ولم يحكها سيبويه، وحكاها الكسائي أيضاً عن بني كلاب وبني عقيل، وهذه الرؤية رؤية بصر. وقال النقاش : ليست برؤية بصر، وإنما المعنى يصيبه ويناله. وقرأ عكرمة : يراه بالألف فيهما، وذلك على لغة من يرى الجزم بحذف الحركة المقدرة في حروف العلة، حكاها الأخفش ؛ أو على توهم أن من موصولة لا شرطية، كما قيل في أنه من يتقي ويصبر في قراءة من أثبت ياء يتقي وجزم يصبر، توهم أن من شرطية لا موصولة، فجزم ويصبر عطفاً على التوهم، والله تعالى أعلم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٠٠


الصفحة التالية
Icon