فتكون رحلة هنا اسم جنس يصلح للواحد ولأكثر، وإيلافهم بدل من ﴿لايلَافِ قُرَيْشٍ﴾، أطلق المبدل منه وقيد البدل بالمفعول به، وهو رحلة، أي لأن ألفوا رحلة تفخيماً لأمر الإيلاف وتذكيراً بعظيم النعمة فيه. ﴿هَاذَا الْبَيْتِ﴾ : هو الكعبة، وتمكن هنا هذا اللفظ لتقدم حمايته في السورة التي قبلها، ومن هنا للتعليل، أي لأجل الجوع. كانوا قطاناً ببلد غير ذي زرع عرضة للجوع والخوف لولا لطف الله تعالى بهم، وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام. قال تعالى :﴿يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَىْءٍ﴾. ﴿الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن﴾ : فضلهم على العرب بكونهم يأمنون حيث ما حلوا، فيقال : هؤلاء قطان بيت الله، فلا يتعرض إليهم أحد، وغيرهم خائفون. وقال ابن عباس والضحاك :﴿الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن﴾ : معناه من الجذام، فلا ترى بمكة مجذوماً. قال الزمخشري : والتنكير في جوع وخوف لشدتهما، يعني أطعمهم بالرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما، وآمنهم من خوف عظيم، وهو خوف أصحاب الفيل، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم. وقرأ الجمهور :﴿مِّنْ خوْف﴾، بإظهار النون عند الخاء، والمسيبي عن نافع : بإخفائها، وكذلك مع العين، نحو من على، وهي لغة حكاها سيبويه. وقال ابن الأسلت يخاطب قريشاً :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥١٣
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوابأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء ومصدقغداة أبي مكسوم هادي الكتائب
كثيبة بالسهل تمشي ورحلةعلى العادقات في رؤوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهمجنود المليك بين ساق وحاجب
فولوا سراعاً هاربين ولم يؤبإلى أهله ملجيش غير عصائب
٥١٥
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥١٣
سورة الماعون
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥١٥
سها عن كذا يسهو سهوراً : لها عنه وتركه عن غفلة. الماعون : فاعول من المعن، وهو الشيء القليل. تقول العرب : ما له معن، أي شيء قليل، وقاله قطرب. وقيل : أصله معونة والألف عوض من الهاء، فوزنه مفعل في الأصل على مكرم، فتكون الميم زائدة، ووزنه بعد زيادة الألف عوضاً ما فعل. وقيل : هو اسم مفعول من أعان يعين، جاء على زنة مفعول، قلب فصارت عينه مكان الفاء فصار موعون، ثم قلبت الواو ألفاً، كما قالوا في بوب باب فصار ماعون، فوزنه على هذا مفعول. وقال أبو عبيدة والزجاج والمبرد : الماعون في الجاهلية : كل ما فيه منفعة حتى الفاس والدلو والقدر والقداحة، وكل ما فيه منفعة من قليل أو كثير، وأنشدوا بيت الأعشى :
بأجود منه بماعونهإذا ما سماءهم لم تغم
وقالوا : المراد به في الإسلام الطاعة، وتأتي أقوال أهل التفسير فيه إن شاء الله تعالى عز وجل.
﴿أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَالِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾.
هذه السورة مكية في قول الجمهور، مدنية في قول ابن عباس وقتادة. قال هبة الله المفسر الضرير : نزل نصفها بمكة في العاصي بن وائل، ونصفها بالمدينة في عبد الله بن أبي المنافق. ولما عدد تعالى نعمه على قريش، وكانوا لا يؤمنون بالبعث والجزاء، اتبع امتنانه عليهم بتهديدهم بالجزاء وتخويفهم من عذابه. ونزلت في أبي جهل، أو الوليد بن المغيرة، أو العاصي بن وائل، أو عمر بن عائذ، أو رجلين من المنافقين، أو أبي سفيان بن حرب، كان ينحر في كل أسبوع جزوراً، فأتاه يتيم فسأله شيئاً فقرعه بعصا، أقوال آخرها لابن جريج.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥١٦
والظاهر أن ﴿أَرَءَيْتَ﴾ هي التي بمعنى أخبرني، فتتعدى لاثنين، أحدهما الذي، والآخر محذوف، فقدره الحوفي : أليس مستحقاً عذاب الله، وقدره الزمخشري : من هو، ويدل على أنها بمعنى أخبرني. قراءة
٥١٦