﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ﴾ يعبد الأصنام، وهي جماد لا قدرة لها على استجابة دعائهم ما دامت الدنيا، أي لا يستجيبون لهم أبداً، ولذلك غياً انتفاء استجابتهم بقوله :﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، ومع ذلك لا شعور لهم بعبادتهم إياهم، وهم في الآخرة أعداء لهم، فليس لهم في الدنيا بهم نفع، وهم عليهم في الآخرة ضرر، كما قال تعالى :﴿سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ﴾. وجاء ﴿اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ﴾، لأنهم يسندون إليهم ما يسند لأولي العلم من الاستجابة والغفلة ؛ وكأن ﴿مَن لا يَسْتَجِيبُ﴾ يراد به من عبد من دون الله من إنس وجن وغيرهما، وغلب من يعقل، وحمل أولاً على لفظ من لا يستجيب، ثم على المعنى في : وهم من ما بعده.
٥٥
والظاهر عود الضمير أولاً على لفظ ﴿مَن لا يَسْتَجِيبُ﴾، ثم على المعنى في : وهم على معنى من في :﴿مَن لا يَسْتَجِيبُ﴾، كما فسرناه. وقيل : يعود على معنى من في :﴿وَمَنْ أَضَلُّ﴾، أي والكفار عن ضلالهم بأنهم يدعون من لا يستجيب. ﴿غَافِلُونَ﴾ : لا يتأملون ما عليهم في دعائهم من هذه صفته.
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ : جمع بينة، وهي الحجة الواضحة. واللام في ﴿لِلْحَقِّ﴾، لام العلة، أي لأجل الحق. وأتى بالظاهرين بدل المضمرين في ﴿قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ﴾، ولم يأت التركيب : قالوا لها، تنبيهاً على الوصفين : وصف المتلو عليهم بالكفر، ووصف المتلو عليهم بالحق، ولو جاء بهما الوصفين، لم يكن في ذلك دليل على الوصفين من حيث اللفظ، وإن كان من سمى الآيات سحراً هو كافر، والآيات في نفسها حق، ففي ذكرهما ظاهرين، يستحيل على القائلين بالكفر، وعلى المتلو بالحق. وفي قوله :﴿لَمَّا جَآءَهُمْ﴾ تنبيه على أنهم لم يتأملوا ما يتلى عليهم، بل بادروا أول سماعه إلى نسبته إلى السحر عناداً وظلماً، ووصفوه بمبين، أي ظاهر، إنه سحر لا شبهة فيه.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٢
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ : أي بل يقولون افتراه، أي بل أيقولون اختلقه ؟ انتقلوا من قولهم :﴿هَاذَا سَاحِرٌ﴾ إلى هذه المقالة الأخرى. والضمير في افتراه عائد إلى الحق، والمراد به الآيات. ﴿قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ﴾، على سبيل الفرض، فالله حسبي في ذلك، وهو الذي يعاقبني على الافتراء عليه، ولا يمهلني ؛ ﴿فَلا تَمْلِكُونَ لِى مِنَ﴾ عقوبة الله بي شيئاً. فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه ؟ يقال : فلان لا يملك إذا غضب، ولا يملك عنانه إذا صم ؛ ومثله :﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْاًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ ؟ ﴿وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَه فَلَن تَمْلِكَ لَه مِنَ اللَّهِ شَيْاًا ﴾. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :"لا أملك لكم من الله شيئاً". ثم استسلم إلى الله واستنصر به فقال :﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ : أي تندفعون فيه من الباطل، ومراده الحق، وتسميته تارة سحراً وتارة فرية. والضمير في فيه يحتمل أن يعود على ما، أو على القرآن، وبه في موضع الفاعل يكفي على أصح الأقوال. ﴿شَهِيدَا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ﴾ : شهيد إليّ بالتبليغ والدعاء إليه، وشهيد عليكم بالتكذيب. ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ : عدة لهم بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر، وإشعار بحلمه تعالى عليهم، إذ لم يعاجلهم بالعقاب، إذ كان ما تقدم تهديداً لهم في أن يعاجلهم على كفرهم. ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ﴾ : أي جاء قبلي غيري، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، والبدع والبديع : من الأشياء ما لم ير مثله، ومنه قول عدي بن زيد، أنشده قطرب :
فما أنا بدع من حوادث تعتريرجالاً عرت من بعد بؤسي فأسعد
والبدع والبديع : كالخف والخفيف، والبدعة : ما اخترع مما لم يكن موجوداً، وأبدع الشاعر : جاء بالبديع، وشيء بدع، بالكسر : أي مبتدع، وفلان بدع في هذا الأمر : أي بديع، وقوم إبداع، عن الأخفش. وقرأ عكرمة، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة : بفتح الدال، جمع بدعة، وهو على حذف مضاف، أي ذا بدع. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون صفة على فعل، كقولهم : دين قيم ولحم زيم. انتهى. وهذا الذي أجازه، إن لم ينقل استعماله عن العرب، لم نجزه، لأن فعل في الصفات لم يحفظ منه سيبويه إلا عدى. قال سيبويه : ولا نعلمه جاء صفة إلا في حرف معتل يوصف به الجمع، وهو قوم عدي، وقد استدرك، واستدراكه صحيح. وأما قيم، فأصله قيام وقيم، مقصور منه، ولذلك اعتلت الواو فيه، إذ لو لم يكن مقصوراً لصحت، كما صحت في حول وعوض. وأما قول العرب : مكان سوى، وماء روى، ورجل رضى، وماء صرى، وسبى طيبه، فمتأولة عند البصريين لا يثبتون بها فعلاً في الصفات. وعن مجاهد، وأبي حيوة : بدعا، بفتح الباء وكسر الدال، كحذر..
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٢