﴿الثَّالِثَةَ الأخْرَى ﴾ : أن الله أمره أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فقال :"إني أمرت أن أقرأ على الجن فمن يتبعني"، قالها ثلاثاً، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود، قال : لم يحضره أحد ليلة الجن غيري. فانطلقنا حتى إذا كنا في شعب الحجون، خط لي خطاً وقال :"لا تخرج منه حتى أعود إليك"، ثم افتتح القرآن. وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم تقطعوا تقطع السحاب، فقال لي :"هل رأيت شيئاً" ؟ قلت : نعم، رجالاً سوداً مستثفري ثياب بيض، فقال :"أولئك جن نصيبين". وكانوا اثني عشر ألفاً، والسورة التي قرأها عليهم : اقرأ باسم ربك. وفي آخر هذا الحديث قلت : يا رسول الله، سمعت لهم لغطاً، فقال :"إنهم تدارؤا في قتيل لهم فحكمت بالحق". وقد روي عن ابن مسعود أنه لم يحضر أحد ليلة الجن، والله أعلم بصحة ذلك.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٢
﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ﴾ : أي القرآن، أي كانوا بمسمع منه، وقيل : حضروا الرسول، وهو التفات من إليك إلى ضمير الغيب. ﴿قَالُوا أَنصِتُوا ﴾ : أي اسكتوا للاستماع، وفيه تأديب مع العلم وكيف يتعلم. وقرأ الجمهور :﴿فَلَمَّا قَضَى ﴾ : مبنياً للمفعول ؛ وأبو مجلز، وحبيب بن عبد الله بن الزبير : قضى، مبنياً للفاعل، أي قضى محمد ما قرأ، أي أتمه وفرغ منه. وقال ابن عمر، وجابر بن عبد الله : قرأ عليهم سورة الرحمن، فكان إذا قال :﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾، قالوا : لا شيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد. ﴿وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ﴾ : تفرقوا على البلاد ينذرون الجن. قال قتادة : ما أسرع ما عقل القوم. انتهى. وعند ذلك وقعت قصة سواد بن قارب،
٦٧
وخنافر وأمثالهما، حين جاءهما رياهما من الجن، وكان سبب إسلامهما.
﴿مِنا بَعْدِ مُوسَى ﴾ : أي من بعد كتاب موسى. قال عطاء : كانوا على ملة اليهود، وعن ابن عباس : لم تسمع الجن بأمر عيسى، وهذا لا يصح عن ابن عباس. كيف لا تسمع بأمر عيسى وله أمة عظيمة لا تنحصر على ملته ؟ فيبعد عن الجن كونهم لم يسمعوا به. ويجوز أن يكونوا قالوا :﴿مِنا بَعْدِ مُوسَى ﴾ تنبيهاً لقومهم على اتباع الرسول، إذ كان عليه الصلاة والسلام قد بشر به موسى، فقالوا : ذلك من حيث أن هذا الأمر مذكور في التوراة، ﴿مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ من التوراة والإنجيل والكتب الإلهية، إذ كانت كلها مشتملة على التوحيد والنبوة والمعاد، والأمر بتطهير الأخلاق. ﴿يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ﴾ : أي إلى ما هو حق في نفسه صدق، يعلم ذلك بصريح العقل. ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ : غابر بين اللفظين، والمعنى متقارب، وربما استعمل أحدهما في موضع لا يستعمل الآخر فيه، فجمع هنا بينهما وحسن التكرار. ﴿أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ﴾ : هو الرسول، والواسطة المبلغة عنه، ﴿يَاقَوْمَنَآ أَجِيبُوا ﴾ : يعود على الله.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٢
﴿يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ : من للتبعيض، لأنه لا يغفر بالإيمان ذنوب المظالم، قال معناه الزمخشري. وقيل : من زائدة، لأن الإسلام يجب ما قبله، فلا يبقى معه تبعة. ﴿وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ : وهذا كله وظواهر القرآن تدل على الثواب، وكذا قال ابن عباس : لهم ثواب وعليهم عقاب، يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها. وقيل : لا ثواب لها إلا النجاة من النار، وإليه كان يذهب أبو حنيفة. ﴿فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الارْضِ﴾ : أي بفائت من عقابه، إذ لا منجا منه، ولا مهرب، كقوله :﴿وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الارْضِ وَلَن نُّعْجِزَه هَرَبًا﴾. وروي عن ابن عامر : وليس لهم بزيادة ميم. وقرأ الجمهور :﴿وَلَمْ يَعْىَ﴾، مضارع عيي، على وزن فعل، بكسر العين ؛ والحسن : ولم يعي، بكسر العين وسكون الياء، ووجهه أنه في الماضي فتح عين الكلمة، كما قالوا في بقي : بقا، وهي لغة لطيىء. ولما بنى الماضي على فعل بفتح العين، بنى مضارعه على يفعل بكسر العين، فجاء يعني. فلما دخل الجازم، حذف الياء، فبقي يعي بنقل حركة الياء إلى العين، فسكنت الياء وبقي يعي. وقرأ الجمهور :﴿بِقَادِرٍ﴾ : اسم فاعل، والباء زائدة في خبر أن، وحسن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي. وقد أجاز الزجاج : ما ظننت أن أحداً بقائم، قياساً على هذا، والصحيح قصر ذلك على السماع، فكأنه في الآية قال : أليس الله بقادر ؟ ألا ترى كيف جاء ببلى مقرراً لإحياء الموتى لا لرؤيتهم ؟ وقرأ الجحدري، وزيد بن علي، وعمرو بن عبيد، وعيسى، والأعرج : بخلاف عنه ؛ ويعقوب : يقدر مضارعاً.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٢
﴿أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ﴾ : أي يقال لهم، والإشارة بهذا إلى العذاب. أي كنتم تكذبون بأنكم تعذبون، والمعنى : توبيخهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم :﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾. ﴿قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا ﴾، تصديق حيث لا ينفع. وقال الحسن : إنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم، يعترفون أنه العدل، فيقول لهم المجاوب من الملائكة عند ذلك :﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ : الفاء عاطفة هذه الجملة على الجملة من أخبار الكفار في الآخرة، والمعنى بينهما مرتبط : أي هذه حالهم مع الله. فلا تستعجل أنت واصبر، ولا تخف إلا الله. وأولو العزم : أي أولو الجد من الرسل، وهم من حفظ له شدة مع قومه ومجاهدة. فتكون من للتبعيض، وقيل : يجوز أن تكون للبيان، أي الذين هم الرسل، ويكون الرسل كلهم أولى العزم ؛ وأولو العزم على التبعيض يقتضي أنهم رسل وغير رسل ؛ وعلى البيان يقتضي أنهم الرسل، وكونها للتبعيض قول عطاء الخراساني والكلبي، وللبيان قول ابن زيد. وقال الحسن بن الفضل : هم الثمانية عشر المذكورة في سورة الأنعام، لأنه قال عقب ذكرهم :﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾. وقال مقاتل : هم ستة : نوح صبر على أذى قومه طويلاً، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر نفسه على الذبح، ويعقوب صبر على الفقد لولده وعمي
٦٨
بصره وقال فصبر جميل، ويوسف صبر على السجن والبئر، وأيوب على البلاء. وزاد غيره : وموسى قال قومه :﴿فَلَمَّا تَرَا ءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلا إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ﴾، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنها معبر، فاعبروها ولا تعمروها.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٢
﴿وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾ : أي لكفار قريش بالعذاب، أي لا تدع لهم بتعجيله، فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر، وإنهم مستقصرن حينئذ مدة لبثهم في الدنيا، كأنهم ﴿لَّمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً﴾. وقرأ أبي : من النهار ؛ وقرأ الجمهور : من نهار. وقرأ الجمهور : بلاغ، بالرفع، والظاهر رجوعه إلى المدة التي لبثوا فيها، كأنه قيل : تلك الساعة بلاغهم، كما قال تعالى :﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾، فبلاغ خبر مبتدأ محذوف. قيل : ويحتمل أن يكون بلاغ يعني به القرآن والشرع، أي هذا بلاغ، أي تبليغ وإنذار. وقال أبو مجلز : بلاغ مبتدأ وخبره لهم ؛ ويقف على فلا تستعجل، وهذا ليس بجيد، لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض، إذ ظاهر قوله : لهم، أنه متعلق بقوله : فلا تستعجل لهم، والحيلولة الجملة التشبيهية بين الخبر والمبتدأ. وقرأ الحسن، وزيد بن علي، وعيسى : بلاغاً بالنصب، فاحتمل أن يراد : بلاغاً في القرآن، أي بلغوا بلاغاً، أو بلغنا بلاغاً. وقرأ الحسن أيضاً : بلاغ بالجر، نعتاً لنهار. وقرأ أبو مجلز، وأبو سراح الهذلي : بلغ علي الأمر، للنبي صلى الله عليه وسلّم، وهذا يؤيد حمل بلاغ رفعاً ونصباً على أنه يعني به تبليغ القرآن والشرع. وعن أبي مجلز أيضاً : بلغ فعلاً ماضياً. وقرأ الجمهور : يهلك، بضم الياء وفتح اللام، وابن محيصن، فيما حكى عنه ابن خالويه : بفتح الياء وكسر اللام ؛ وعنه أيضاً : بفتح الياء واللام، وماضيه هلك بكسر اللام، وهي لغة. وقال أبو الفتح : هي مرغوب عنها. وقرأ زيد بن ثابت : يهلك، بضم الياء وكسر اللام. ﴿إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ : بالنصب، وفي هذه الآية وعيد وإنذار.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٢