﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ : قيل نزلت في بني إسرائيل، أسلموا وقالوا لرسول الله : قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلنا، كأنهم منوا بذلك، فنزلت فيهم هذه الآية. وقوله :﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ﴾، فعلى هذا يكون :﴿وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ بالمن بالإسلام. وعن ابن عباس : بالرياء والسمعة، وعنه : بالشرك والنفاق ؛ وعن حذيفة : بالكبائر، وقيل : بالعجب، فإنه يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب. وعن مقاتل : بعصيانكم للرسول. وقيل : أعمالكم : صدقاتكم بالمن والأذى. ﴿وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ : عام في الموجب لانتفاء الغفران، وهو وفاتهم على الكفر. وقيل : هم أهل القليب. وقيل : نزلت بسبب عدي بن حاتم، رضي الله عنه، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن أبيه قال : وكانت له أفعال بر، فما حاله ؟ فقال :"في النار"، فبكى عدي وولى، فدعاه فقال له :"أبي وأبوك وأبو إبراهيم خليل الرحمن في النار"، فنزلت.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٩
﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ﴾ : وهو الصلح. وقرأ الجمهور : وتدعوا، مضارع دعا ؛ والسلمي : بتشديد الدال، أي تفتروا ؛ والجمهور : إلى السلم، بفتح السين ؛ والحسن، وأبو رجاء، والأعمش، وعيسى، وطلحة، وحمزة، وأبو بكر : بكسرها. وتقدم الكلام على السلام في البقرة في قوله :﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً﴾ وقال الزمخشري : وقرىء : ولا تدعوا من ادعى القوم، وتداعوا إذا ادعوا، نحو قولك : ارتموا الصيد وتراموا. انتهى. والتلاوة بغير لا، وكان يجب أن يأتي بلفظ التلاوة فيقول : وقرىء : وتدعوا معطوف على تهنوا، فهو مجزوم، ويجوز أن يكون مجزوماً بإضمار إن. ﴿وَأَنتُمُ الاعْلَوْنَ﴾ : أي الأعليون، وهذه الجملة حالية ؛ وكذا :﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾. ويجوز أن يكونا جملتي استئناف، أخبر أولاً بقوله :﴿وَأَنتُمُ الاعْلَوْنَ﴾، فهو إخبار بمغيب أبرزه الوجود، ثم ارتقى إلى رتبة أعلى من التي قبلها، وهي كون الله تعالى معهم. ﴿وَلَن يَتِرَكُمْ﴾، قال ابن عباس : ولن يظلمكم ؛ وقيل : لن يعريكم من ثواب أعمالكم ؛ وقيل : ولين ينقصكم. وقال الزمخشري، وقال أبو عبيد :﴿وَلَن يَتِرَكُمْ﴾ : من وترت الرجل، إذا قتلت له قتيلاً من ولد أو أخ أو حميم أو قريب ؛ قال : أو ذهبت بماله ؛ قال : أو حربته، وحقيقته أفردته من قريبه أو ماله من الوتر وهو الفرد. فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر، وهو من فصيح الكلام، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :"من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله"، أي أفرد عنهما قتلاً ونهباً.
﴿إِنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ : وهو تحقير لأثر الدنيا، أي فلا تهنوا
٨٥
في الجهاد. وأخبر عنها بذلك، باعتبار ما يختص بها من ذلك ؛ وأما ما فيها من الطاعة وأمر الآخرة فليس بذلك. ﴿يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ﴾ : أي ثواب أعمالكم من الإيمان والتقوى، ﴿وَلا يَسْاَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾. قال سفيان بن عيينة : أي كثيراً من أموالكم، إنما يسألكم ربع العشر، فطيبوا أنفسكم. وقيل : لا حاجة إليها، بل يرجع ثواب إنفاقكم إليكم. وقيل : إنما يسألكم أمواله، لأنه هو المالك لها حقيقة، وهو المنعم بإعطائها. وقيل : الضمير في يسألكم للرسول، أي لا يسألكم أجراً على تبليغ الرسالة، كما قال :﴿قُلْ مَآ أَسْاَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٩
﴿إِن يَسْاَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا ﴾ : أي يبالغ في الإلحاح. ﴿تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ : أي تطعنون على الرسول وتضيق صدوركم كذلك، وتخفون دين يذهب بأموالكم. وقرأ الجمهور : ويخرج أضغانكم جزماً على جواب الشرط، والفعل مسند إلى الله، أو إلى الرسول، أو إلى البخل. وقرأ عبد الوارث، عن أبي عمرو : ويخرج، بالرفع على الاستئناف بمعنى : وهو يخرج. وحكاها أبو حاتم، عن عيسى ؛ وفي اللوامح عن عبد الوارث، عن أبي عمرو : وتخرج، بالتاء وفتحها وضم الراء والجيم ؛ أضغانكم : بالرفع، بمعنى : وهو يخرج أو سيخرج أضغانكم، رفع بفعله. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وابن سيرين، وابن محيصن، وأيوب بن المتوكل، واليماني : وتخرج، بتاء التأنيث مفتوحة ؛ أضغانكم : رفع به ؛ ويعقوب : ونخرج، بالنون ؛ أضغانكم : رفعاً، وهي مروية عن عيسى، إلا أنه فتح الجيم بإضمار أن، فالواو عاطفة على مصدر متوهم، أي يكف بخلكم وإخراج أضغانكم. وهذا الذي خيف أن يعتري المؤمنين، هو الذي تقرب به محمد بن سلمة إلى كعب بن الأشرف، وتوصل به إلى قتله حين قاله له : إن هذا الرجل قد أكثر علينا وطلب منا الأموال.
﴿ثُمَّ أَنتُمْ هَا ؤُلاءِ﴾ : كررها التنبيه توكيداً، وتقدم الكلام على هذا التركيب في سورة آل عمران. وقال الزمخشري : هؤلاء موصول بمعنى الذين صلته تدعون، أي أنتم الذين تدعون، أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون ؛ ثم استأنف وصفهم كأنهم قالوا : وما وصفنا فقيل : تدعون لتنفقوا في سبيل الله. انتهى. وكون هؤلاء موصولاً إذا تقدمها ما الاستفهامية باتفاق، أو من الاستفهامية باختلاف. ﴿فِى سَبِيلِ اللَّهِ﴾، قيل : للغزو، وقيل : الزكاة، واللفظ أعم. ﴿وَمَن يَبْخَلْ﴾ : أي بالصدقة وما أوجب الله عليه ؛ ﴿فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِا﴾ : أي لا يتعدى ضرره لغيره. وبخل يتعدى بعلى وبعن. يقال : بخلت عليه وعنه، وصليت عليه وعنه ؛ وكأنهما إذا عديا بعن ضمناً معنى الإمساك، كأنه قيل : أمسكت عنه بالبخل.
﴿وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ﴾ : أي الغني مطلقاً، إذ يستحيل عليه الحاجات. وأنتم الفقراء مطلقاً، لافتقاركم إلى ما تحتاجون إليه في الدنيا، وإلى الثواب في الآخرة. ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا ﴾ : عطف على :﴿وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا ﴾، أي وإن تتولوا، أي عن الإيمان والتقوى. ﴿يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ : أي يخلق قوماً غيركم راغبين في الإيمان والتقوى، غير متولين عنهما، كما قال :﴿وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾. وتعيين أولئك القوم، وأنهم الأنصار، أو التابعون، أو أهل اليمن، أو كندة والنخع، أو العجم، أو فارس والروم، أو الملائكة، أقوال. والخطاب لقريش، أو لأهل المدينة، قولان. وروى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن هذا، وكان سلمان إلى جنبه، فوضع يده على فخذه وقال :"قوم هذا والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس". وإن صح هذا الحديث، وجب المصير في تعيين ما انبهم من قوله :﴿قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ إلى تعيين الرسول. ﴿ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم﴾ : أي في الخلاف والتولي والبخل.
٨٦
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٩