﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ﴾ : روي أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلّم يغزو خيبر، ووعده بفتحها، وأعلمه أن المخلفين إذا رأوا مسيره إلى خيبر، وهم عدو مستضعف، طلبوا الكون معه رغبة في عرض الدنيا من الغنيمة، وكان كذلك. ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَـامَ اللَّهِ﴾ : معناه أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر، وذلك أنه وعدهم أن يعوضهم من مغانم مكة خيبر، إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منها شيئاً، قاله مجاهد وقتادة، وعليه عامة أهل التأويل. وقال ابن زيد :﴿كَلَـامَ اللَّهِ﴾ : قوله تعالى :﴿لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَـاتِلُوا مَعِىَ عَدُوًّا ﴾، وهذا لا يصح، لأن هذه الآية نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من تبوك في آخر عمره. وهذه السورة نزلت عام الحديبية، وأيضاً فقد غزت مزينة وجهينة بعد هذه المدة معه عليه الصلاة والسلام، وفضلهم بعد على تميم وغطفان وغيرهم من العرب. وقرأ الجمهور : كلام الله، بألف ؛ والإخوان : كلم الله، جمع كلمة، وأمره تعالى أن يقول لهم :﴿لَّن تَتَّبِعُونَا﴾، وأتى بصيغة لن، وهي للمبالغة في النفي، أي لا يتم لكم ذلك، إذ قد وعد تعالى أن ذلك لا يحضرها إلا أهل الحديبية فقط. ﴿كَذَالِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ﴾ : يريد وعده قبل اختصاصهم بها. ﴿بَلْ تَحْسُدُونَنَا ﴾ : أي يعز عليكم أن نصيب مغنماً معكم، وذلك على سبيل الحسد أن نقاسمكم فيما تغنمون. وقرأ أبو حيوة : بكسر السين، ثم رد عليهم تعالى كلامهم هذا فقال :﴿بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا﴾ من أمور الدنيا، وظاهره ليس لهم فكر إلا فيها، كقوله :﴿يَعْلَمُونَ ظَـاهِرًا مِّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا﴾. والإضراب الأول رد أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات الحسد. والثاني، إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى ما هو أطم منه، وهو الجهل وقلة الفقه.
﴿قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الاعْرَابِ﴾ : أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلّم أن يقول لهم ذلك، ودل على أنهم كانوا يظهرون الإسلام، ولو لم يكن الأمر كذلك، لم يكونوا أهلاً لذلك الأمر. وأبهم تعالى في قوله :﴿إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾. فقال عكرمة، وابن جبير، وقتادة : هم هوازن ومن حارب الرسول صلى الله عليه وسلّم في حنين. وقال كعب : الروم الذين خرج إليهم عام تبوك، والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة. وقال الزهري، والكلبي : أهل الردة، وبنو حنيفة باليمامة. وعن رافع بن خديج : إنا كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى، ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنهم أريدوا بها. وقال ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وعطاء الخراساني، وابن أبي ليلى : هم الفرس. وقال الحسن : فارس والروم. وقال أبو هريرة : قوم لم يأتوا بعد. وظاهر الآية يرد هذا القول. والذي أقوله : إن هذه الأقوال تمثيلات من قائليها، لا أن المعنى بذلك ما ذكروا، بل أخبر بذلك مبهماً دلالة على قوة الإسلام وانتشار دعوته، وكذا وقع حسن إسلام تلك الطوائف، وقاتلوا أهل الردة زمان أبي بكر، وكانوا في فتوح البلاد أيام عمر وأيام غيره من الخلفاء.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٨٧
والظاهر أن هؤلاء المقاتلين ليسوا ممن تؤخذ منهم الجزية، إذ لم يذكر هنا إلا القتال أو الإسلام. ومذهب أبي حنيفة، رحمه الله تعالى ورضي عنه : أن الجزية لا تقبل من مشركي العرب، ولا من المرتدين، وليس إلا الإسلام أو القتل ؛ وتقبل ممن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب والمجوس. ومذهب الشافعي، رحمه الله تعالى : لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس، دون مشركي العجم والعرب. وقال الزمخشري : وهذا دليل على إمامة أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام الرسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولكن بعد وفاته. انتهى. وهذا ليس بصحيح، فقد حضر كثير منهم مع جعفر في موتة، وحضروا حرب هوازن معر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وحضروا معه في سفرة تبوك. ولا يتم قول الزمخشري : إلا على قول من عين أنهم أهل الردة. وقرأ الجمهور : أو يسلمون، مرفوعاً ؛ وأبي، وزيد بن علي : بحذف النون منصوباً بإضمار أن في قول الجمهور من البصريين غير الجرمي، وبها في قول الجرمي والكسائي، وبالخلاف في قول الفراء وبعض الكوفيين. فعلى قول النصب بإضمار أن هو عطف مصدر مقدر على مصدر متوهم، أي يكون قتال أو إسلام، أي أحد هذين، ومثله في النصب قول امرىء القيس :
فقلت له لا تبك عينك إنمانحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
٩٤