وفاسق وبنبأ مطلقان، فيتناول اللفظ كل واحد على جهة البدل، وتقدم قراءة فتبينوا وفتثبتوا في سورة النساء، وهو أمر يقتضي أن لا يعتمد على كلام الفاسق، ولا يبنى عليه حكم. وجاء الشرط بحرف إن المقتضي للتعليق في الممكن، لا بالحرف المقتضي للتحقيق، وهو إذا، لأن مجيء الرجل الفاسق للرسول وأصحابه بالكذب، إنما كان على سبيل الندرة. وأمروا بالتثبت عند مجيئه لئلا يطمع في قبول ما يلقيه إليهم، ونبا ما يترتب على كلامه. فإذا كانوا بمثابة التبين والتثبت، كف عن مجيئهم بما يريه. ﴿ءَانٍ﴾ : مفعول له، أي كراهة أن يصيبوا، أو لئلا تصيبوا، ﴿سُواءَا بِجَهَـالَةٍ﴾ حال، أي جاهلين بحقيقة الأمر معتمدين على خبر الفاسق، ﴿فَتُصْبِحُوا ﴾ : فتصيروا، ﴿عَلَى مَا فَعَلْتُمْ﴾ : من إصابة القوم بعقوبة بناء على خبر الفاسق، ﴿نَـادِمِينَ﴾ : مقيمين على فرط منكم، متمنين أنه لم يقع. ومفهوم ﴿إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ﴾ : قبول كلام غير الفاسق، وأنه لا يتثبت عنده، وقد يستدل به على قبول خبر الواحد العدل. وقال قتادة : لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"التثبت من الله والعجلة من الشيطان". وقال مقلد بن سعيد : هذه الآية ترد علي من قال : إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة، لأن الله تعالى
١٠٩
أمر بالتبين قبل القبول. انتهى. وليس كما ذكر، لأنه ما أمر بالتبيين إلا عند مجيء الفاسق، لا مجيء المسلم، بل بشرط الفسق. والمجهول الحال يحتمل أن يكون فاسقاً، فالاحتياط لازم.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ : هذا توبيخ لمن يكذب للرسول عليه الصلاة والسلام، ووعيد بالنصيحة. ولا يصدر ذلك إلا ممن هو شاك في الرسالة، لأن الله تعالى لا يترك نبيه صلى الله عليه وسلّم يعتمد على خبر الفاسق، بل بين له ذلك. والظاهر أن قوله :﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ كلام تام، أمرهم بأن يعلموا أن الذي هو بين ظهرانيكم هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلا تخبروه بما لا يصح، فإنه رسول الله يطلعه على ذلك.
ثم أخبر تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلّم لو أطاعكم في كثير من الأمر الذي يؤدي إليه اجتهادكم وتقدمكم بين يديه ﴿لَعَنِتُّمْ﴾ : أي لشق عليكم. وقال مقاتل : لأتمتم. وقال الزمخشري : والجملة المصدرة بلو لا تكون كلاماً مستأنفاً لأدائه إلى تنافر النظم، ولكن متصلاً بما قبله حالاً من أحد الضميرين في فيكم المستتر المرفوع، أو البارز المجرور، وكلاهما مذهب سديد، والمعنى : أن فيكم رسول الله، وأنتم على حالة يجب عليكم تغييرها، وهو أنكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعن لكم من رأي واستصواب فعل المطواع لغيره، والتابع له فيما يرتئيه المحتذي على أمثلته، ولو فعل ذلك ﴿لَعَنِتُّمْ﴾ : أي لوقعتم في الجهد والهلاك.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٠٣
وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم الإيقاع ببني المصطلق، وتصديق قول الوليد، وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم، وأن بعضهم كانوا يتصونون، ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك، وهم الذين استثناهم بقوله :﴿وَلَـاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ﴾ : أي إلى بعضكم، ولكنه أغنت عن ذكر البعض صفتهم المفارقة لصفة غيرهم، وهذا من إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة التي لا يفطن إليها إلا الخواص. وعن بعض المفسرين : هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى. انتهى، وفيه تكثير. ولا بعد أن تكون الجملة المصدرة بلو مستأنفة لا حالاً، فلا تعلق لها بما قبلها من جهة الإعراب. وتقديم خبر أن على اسمها قصد إلى توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن من استتباعهم رأي الرسول صلى الله عليه وسلّم لآرائهم، فوجب تقديمه لانصباب الغرض إليه. وقيل : يطيعكم دون أطاعكم، للدلالة على أنه كان في إرادتهم استمرار عملهم على ما يستصوبونه، وأنه كلما عنّ لهم رأي في أمر كان معمولاً عليه بدليل قوله في كثير من الأمر، وشريطة لكن مفقودة من مخالفة ما بعدها لما قبلها من حيث اللفظ، حاصلة من حيث المعنى، لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المتقدم ذكرهم فوقعت لكن في حاق موقعها من الاستدراك. انتهى، وهو ملتقط من كلام الزمخشري.


الصفحة التالية
Icon