فمن علماء بلادنا وصالحيهم من يدعى الواعي وباللص وبوجه نافخ، وكل هذا يحرم تعاطيه. قيل : وليس من هذا قول المحدثين سليمان الأعمش وواصل الأحدب ونحوه مما تدعو الضرورة إليه، وليس فيه قصد استخفاف ولا أذى. قالوا : وقد قال ابن مسعود لعلقمة : وتقول أنت ذلك يا أعور. وقال ابن زيد : أي لا يقول أحد لأحد يا يهودي بعد إسلامه، ولا يا فاسق بعد توبته، ونحو ذلك. وتلاحى ابن أبي حدرد وكعب بن مالك، فقال له مالك : يا أعرابي، يريد أن يبعده من الهجرة، فقال له الآخر : يا يهودي، يريد المخاطبة لليهود في يثرب.
﴿بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الايمَانِ﴾ : أي بئس اسم تنسبونه بعصيانكم نبزكم بالألقاب، فتكونون فساقاً بالمعصية بعد إيمانكم، أو بئس ما يقوله الرجل لأخيه يا فاسق بعد إيمانه. وقال الرماني : هذه الآية تدل على أنه لا يجتمع الفسوق والإيمان. انتهى. وقال الزمخشري : نحو قول الرماني، قال : استقباح الجمع بعد الإيمان، والفسق الذي يأباه الإيمان، وهذه نزغة اعتزالية. وقال الزمخشري : الاسم ههنا بمعنى الذكر من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم أو باللوم، كما يقال : طار ثناؤه وصيته وحقيقة ما سمي من ذكره وارتفع بين الناس، كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع
١١٣
للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن تذكروا بالفسق. ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ﴾ : أي عن هذه الأشياء ﴿فَأُوالَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ : تشديد وحكم بظلم من لم يتب.
﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ﴾ : أي لا تعملوا على حسبه، وأمر تعالى باجتنابه، لئلا يجترىء أحد على ظن إلا بعد نظر وتأمل وتمييز بين حقه وباطله. والمأمور باجتنابه هو بعض الظن المحكوم عليه بأنه إثم، وتمييز المجتنب من غيره أنه لا يعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر، كمن يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث، كالدخول والخروج إلى حانات الخمر، وصحبة نساء المغاني، وإدمان النظر إلى المرد. فمثل هذا يقوي الظن فيه أنه ليس من أهل الصلاح، ولا إثم فيه، وإن كنا لا نراه يشرب الخمر، ولا يزني، ولا يعبث بالشبان، بخلاف من ظاهره الصلاح فلا يظن به السوء. فهذا هو المنهي عنه، ويجب أن يزيله. والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب. وقال الزمخشري : والهمزة فيه بدل عن الواو، كأنه يثم الأعمال، أي يكسرها بإحباطه، وهذا ليس بشيء، لأن تصريف هذه الكلمة مستعمل فيه الهمز. تقول : أثم يأثم فهو آثم، والإثم والآثام، فالهمزة أصل وليست بدلاً عن واو. وأما يثم فأصله يوثم، وهو من مادة أخرى. وقيل : الاثم متعلق بتكلم الظان. أما إذا لم يتكلم، فهو في فسحة، لأنه لا يقدر على رفع الخواطر التي يبيحها قول النبي صلى الله عليه وسلّم :"الحزم سوء الظن". وقرأ الجمهور : ولا تجسسوا بالجيم. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين بالحاء وهما متقاربان، نهى عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه. وقيل لابن مسعود : هل لك في فلان تقطر لحيته خمراً ؟ فقال : إنا قد نهينا عن التجسس، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به. وفي الحديث :"أن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم"، وقد وقع عمر رضي الله تعالى عنه في حراسته على من كان في ظاهره ريبة، وكان دخل عليه هجماً، فلما ذكر له نهي الله تعالى عن التجسس، انصرف عمر.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٠٣
﴿وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ﴾، يقال : غابه واغتابه، كغاله واغتاله ؛ والغيبة من الاغتياب، كالغيلة من الاغتيال، وهي ذكر الرجل بما يكره مما هو فيه. وفي الحديث :"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما الغيبة فقال : أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع، فقال : يا رسول الله وإن كان حقاً ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : إذا قلت باطلاً فذلك البهتان"، وفي الصحيحين فقد بهته. وقال ابن عباس : الغيبة أدام كلاب الناس. وقالت عائشة عن امرأة : ما رأيت أجمل منها، إلا أنها قصيرة. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"اغتبتيها، نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرتيه". وحكى الزهراوي عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"الغيبة أشد من الزنا، لأن الزاني يتوب الله عليه، والذي يغتاب فلا يتاب عليه حتى يستحل، وعرض المسلم مثل دمه في التحريم". وفي الحديث المستفيض :"فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم". ولا يباح من هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه، من تجريح الشهود والرواة، والخطاب إذا استنصح من يخطب إليه من يعرفهم، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم، ومنه :
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم


الصفحة التالية
Icon