كما حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس( يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ) تقول: يا ليتني مِتُّ قبل هذا الكرب الذي أنا فيه، والحزن بولادتي المولود من غير بَعْل، وكنت نِسيا منسيًّا: شيئا نُسي فتُرك طلبه كخرق الحيض التي إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر، وكذلك كل شيء نسي وترك ولم يطلب فهو نسي. ونسي بفتح النون وكسرها لغتان معروفتان من لغات العرب بمعنى واحد، مثل الوَتر والوِتر، والجَسر والجِسر، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب عندنا; وبالكسر قرأت عامة قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة; وبالفتح قرأه أهل الكوفة; ومنه قول الشاعر:
كأنَّ لَهَا فِي الأرْضِ نِسْيا تَقُصُّهُ... إذَا ما غَدَتْ وإنْ تُحَدّثْكَ تَبْلَتِ (١)
ويعني بقوله: تقصه: تطلبه، لأنها كانت نسيته حتى ضاع، ثم ذكرته فطلبته، ويعني بقوله: تبلت: تحسن وتصدّق، ولو وجه النسي إلى المصدر من النسيان كان صوابا، وذلك أن العرب فيما ذكر عنها تقول: نسيته نسيانا ونسيا، كما قال بعضهم من طاعة الربّ وعصي الشيطان، يعني وعصيان، وكما تقول أتيته إتيانا وأتيا، كما قال الشاعر:
أتيُ الفَوَاحِشِ فِيهِمُ مَعْرَوفَةٌ... وَيَروْنَ فِعْلَ المَكْرُماتِ حَرَامَا (٢)
وقوله(مَنْسيًّا) مفعول من نسيت الشيء كأنها قالت: ليتني كنت الشيء الذي ألقي، فترك ونسي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(١) البيت للشنفرى " اللسان : نسي " قال : والنسي : الشيء المنسي الذي لا يذكر. وقال الأخفش : النسي : ما أغفل من شيء حقير ونسي. وقال الزجاج : النسي في كلام العرب الشيء المطروح، لا يؤبه له. وقال الشنفرى :" وكأن لها... البيت " قال ابن بري : بلت، فالفتح : إذا قطع، وبلت بالكسر : إذا سكن. وقال الفراء : النسي والنسي ( بكسر النون المشددة وفتحها ) لغتان فيه تلقيه المرأة من خرق اعتلاها ( حيضها ) مثل وتر ووتر. قال ولو أراد بالنسي ( بالفتح ) مصدر النسيان، كان صوابا.
(٢) في ( اللسان : أتى ) : الإتيان : المجيء. أتيته أتيا وإتيانا وإتيانه ومأتاه : جئته. واستشهد المؤلف بالبيت على أن العرب تقول نسيته نسيانا ونسيا، كما تقول أتيته إتيانا وأتيا. وقوله معروفة : أنث الخبر بالتاء مع أن المبتدأ وهو الأتي مذكر، لكنه لما أضيف إلى الفواحش، وهي جمع فاحشة. اكتسب منها التأنيث فلذلك أنث الخبر بالتاء.


الصفحة التالية
Icon