جلّ ثناؤه، كما أخبر الله عن عيسى، أنه قال إذا قيل:( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ....* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ )
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بفتح النون، لعلل ثلاث: إحداهن إجماع من القرّاء عليها. والثانية: أن الله جلّ ثناؤه ذكر نظير هذه القصة في سورة سبأ، فقال:(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ)، فأخبر عن الملائكة أنهم إذا سُئلوا عن عبادة من عبدهم تبرّءوا إلى الله من ولايتهم، فقالوا لربهم:(أنت ولينا من دونهم) فذلك يوضح عن صحة قراءة من قرأ ذلك( مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) بمعنى: ما كان ينبغي لنا أن نتخذهم من دونك أولياء. والثالثة: أن العرب لا تدخل"مِن"هذه التي تدخل في الجحد إلا في الأسماء، ولا تدخلها في الأخبار، لا يقولون: ما رأيت أخاك من رجل، وإنما يقولون: ما رأيت من أحد، وما عندي من رجل، وقد دخلت ها هنا في الأولياء، وهي في موضع الخبر، ولو لم تكن فيها"من" كان وجها حسنا. وأما البور: فمصدر واحد وجمع للبائر، يقال: أصبحت منازلهم بورا: أي خالية لا شيء فيها، ومنه قولهم: بارت السوق وبار الطعام إذا خلا من الطلاب والمشتري، فلم يكن له طالب، فصار كالشيء الهالك; ومنه قول ابن الزبعْرى:
يَا رَسُولَ المَلِيكِ إنَّ لسانِي... رَاتقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ (١)
وقد قيل: إن بور: مصدر، كالعدل والزور والقطع، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وإنما أريد بالبور في هذا الموضع أن أعمال هؤلاء الكفار كانت باطلة؛ لأنها لم تكن لله كما ذكرنا عن ابن عباس.