فظلت رءوس القوم وكبراؤهم لها خاضعين، وقال: أحب إلي من هذين الوجهين في العربية أن يقال: إن الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون، فجعلت الفعل أولا للأعناق، ثم جعلت خاضعين للرجال، كما قال الشاعر:
عَلى قَبْضَة مَرْجُوَّة ظَهْرُ كَفِّهِ... فَلا المَرْءُ مُسْتَحي وَلا هُوَ طاعِمُ (١)
فأنث فعل الظهر، لأن الكفّ تجمع الظهر، وتكفي منه، كما أنك تكتفي بأن تقول: خضعت لك، من أن تقول: خَضَعَتْ لك رقبتي، وقال: ألا ترى أن العرب تقول: كل ذي عين ناظر وناظرة إليك، لأن قولك: نظرتْ إليك عيني، ونظرت إليك بمعنى واحد بترك كل، وله الفعل ومرده إلى العين، فلو قلت: فظلت أعناقهم لها خاضعة، كان صوابا.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بما قال أهل التأويل في ذلك أن تكون الأعناق هي أعناق الرجال، وأن يكون معنى الكلام: فظلت أعناقهم ذليلة، للآية التي ينزلها الله عليهم من السماء، وأن يكون قوله "خاضعين"مذكرا، لأنه خبر عن الهاء والميم في الأعناق، فيكون ذلك نظير قول جرير:
أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي... كمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الهلالِ (٢)
وذلك أن قوله: مرّ، لو أسقط من الكلام، لأدى ما بقي من الكلام عنه ولم يفسد سقوطه معنى الكلام عما كان به قبل سقوطه، وكذلك لو أسقطت الأعناق من
(٢) البيت لجرير، وقد سبق الاستشهاد به في الجزء (١٢ : ١٥٧) وذكره صاحب (اللسان: خضع) قال: جاز أن يخبر عن المضاف إليه كما قال الشاعر "رأت مر السنين"، لما كانت السنون لا تكون إلا بمن أخبر عن السنين، وإن كان أضاف إليها المرور. والسرار: الليلة التي يخفى فيها الهلال آخر الشهر. ورواية "رأت مر السنين": هي رواية الديوان (طبعة الصاوي: ٤٢٦) ورواية أبي عبيدة في مجاز القرآن (ص ١٧١).