شاكين في التوراة أنها من عند الله. وكذلك"المتمني" الذي هو في معنى"المشتهي" غير جائز أن يقال: هو ظان في تمنيه. لأن التمني من المتمني، إذا تمنى ما قد وجد عينه. فغير جائز أن يقال: هو شاك، فيما هو به عالم. لأن العلم والشك معنيان ينفي كل واحد منهما صاحبه، لا يجوز اجتماعهما في حيز واحد. والمتمني في حال تمنيه، موجود تمنيه، فغير جائز أن يقال: هو يظن تمنيه. (١)
* * *
وإنما قيل:(لا يعلمون الكتاب إلا أماني)، والأماني من غير نوع"الكتاب"، كما قال ربنا جل ثناؤه:( مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ) [ النساء: ١٥٧] و"الظن" من"العلم" بمعزل. وكما قال:( وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى ) [ الليل: ١٩-٢٠]، وكما قال الشاعر: (٢)
ليس بيني وبين قيس عتاب... غير طعن الكُلَى وضرب الرقاب (٣)
وكما قال نابغة بني ذبيان:
حلفت يمينا غير ذي مَثْنَوية،... ولا علم إلا حسنَ ظن بصاحب (٤)
(٢) هو عمرو بن الأيهم التغلبي النصراني، وقيل اسمه : عمير، وقيل هو أعشى تغلب. روي عن الأخطل أنه قيل له وهو يموت : على من تخلف قومك؟ قال : على العميرين. يعني القطامي عمير ابن أشيم، وعمير بن الأهتم.
(٣) سيبويه ١ : ٣٦٥، والوحشيات رقم : ٥٥، ومعجم الشعراء : ٢٤٢، وحماسة البحتري : ٣٢، وانظر تحقيق الراجكوتي في سمط اللآلئ : ١٨٤. والشعر يقوله في هجاء قيس عيلان يقول فيها : قاتل الله قيس عيلان طرا... ما لهم دون غدرة من حجاب
ثم إن سيبويه أنشد البيت برفع"غير"، على البدل من"عتاب"، اتساعا ومجازا.
(٤) ديوانه : ٤٢، وسيبويه ١ : ٣٦٥، وغيرهما، وروايتهم جميعا :"بصاحب"، وكان في الأصل المطبوع"بغائب"، وأظن أن ما كان في الطبري خطأ من النساخ، لأنه لا يتفق مع الشعر. فالنابغة يمدح بهذه الأبيات عمرو بن الحارث الأعرج الغساني، فيقول قبله : على لعمرو نعمة بعد نعمة... لوالده، ليست، بذات عقارب
حلفت يمينا...........................
لئن كان للقبرين : قبر بجلق... وقبر بصيداء الذي عند حارب
وللحارث الجفني سيد قومه... ليلتمسن بالجيش دار المحارب
وقوله :"مثنوية" أي استثناء. فهو يقول لعمرو : حلفت يمينا لئن كان من هو - من ولد هؤلاء الملوك من آبائه، الذين عدد قبورهم ومآثرهم - ليغزون من حاربه في عقر داره وليهزمنه، ولم أقل هذا عن علم إلا ما عندي في صاحبي من حسن الظن. فرواية الطبري لا تستقيم، إن صحت عنه.