من يقول ذاك، ومنا من لا يقوله = فتحذف"مَن" اكتفاء بدلالة"مِنْ" عليه، كما قال ذو الرمة:
فَظَلُّوا، وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سَابِقٌ لَهُ... وَآخَرُ يَثْنِي دَمْعَةَ العَيْنِ بِالهَمْلِ (١)
يعني: ومنهم مَن دمعه، وكما قال الله تبارك وتعالى:( وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ) [سورة الصافات: ١٦٤]. وإلى هذا المعنى كانت عامة أهل العربية من أهل البصرة يوجِّهون تأويل قوله:"من الذين هادوا يحرفون الكلم"، غير أنهم كانوا يقولون: المضمر في ذلك"القوم"، كأن معناه عندهم: من الذين هادوا قوم يحرِّفون الكلم، ويقولون: نظير قول النابغة:
كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ (٢)
يعني: كأنك جمل من جمال أقيش.
فأما نحويو الكوفة فينكرون أن يكون المضمر مع"مِن" إلا"مَن" أو ما أشبهها. (٣)
* * *
بَكَيْتُ عَلَى مَيٍّ بِهَا إذْ عَرَفْتُهَا | وَهِجْتُ الْهَوَى حَتَّى بَكَى القَوْمُ مِنْ أَجْلِي |
فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ غَالِبٌ لَهُ | وَآخَرُ يَثْنِي عَبْرَةَ العَيْنِ بالهَمْلِ |
وَهَلْ هَمَلانُ الْعَيْنِ رَاجِعُ مَا مَضَى | مِنَ الوَجْدِ، أوْ مُدْنِيكِ يَا مَيُّ مِنْ أَهْلِي |
وقوله: "يثني دمعة العين"، أي يرد هملانها. وقوله: "بالهمل" متعلق بقوله"دمعة" ووضع"دمعة" هنا مصدرًا لقوله: "دمعت عينه دمعًا ودمعانًا ودموعًا"، وزاده هو"دمعة" على وزن"رحمة" في المصادر = وكذلك في رواية"عبرة"، كلاهما مصدر، ولم تثبته كتب اللغة. يقول: وآخر يرد إرسال العين دمعها منهملا، يعني: لولا ذلك لسالت دموعه غزارًا.
(٢) مضى تخريجه فيما سلف ١: ١٧٩، تعليق: ٢، ونسيت هناك أن أرده إلى هذا المكان، فأثبته.
(٣) انظر مقالة الفراء في معاني القرآن ١: ٢٧١.