المسألة الثانية أن هذه الكلمة كما دلت على وجود الإله فهي أيضا مشتملة على الدلالة على كونه متعاليا في ذاته عن المكان والحيز والجهة لأنا بينا أن لفظ العالمين يتناول كل موجود سوى الله ومن جملة ما سوى الله المكان والزمان فالمكان عبارة عن الفضاء والحيز والفراغ الممتد والزمان عبارة عن المدة التي يحصل بسببها القبلية والبعدية فقوله رب العالمين يدل على كونه ربا للمكان والزمان وخالقا لهما وموجدا لهما ثم من المعلوم أن الخالق لا بد وأن يكون سابقا وجوده على وجود المخلوق ومتى كان الأمر كذلك كانت ذاته موجودة قبل حصول الفضاء والفراغ والحيز متعالية عن الجهة والحيز فلو حصلت ذاته بعد حصول الفضاء في جزء من أجزاء الفضاء لانقلبت حقيقة ذاته وذلك محال فقوله رب العالمين يدل على تنزيه ذاته عن المكان والجهة بهذا الاعتبار المسألة الثالثة هذه اللفظة تدل على أن ذاته منزهة عن الحلول في المحل كما تقول النصارى والحلولية لأنه لما كان ربا للعالمين كان خالقا لكل ما سواه والخالق سابق على المخلوق فكانت ذاته موجودة قبل كل محل فكانت ذاته غنية عن كل محل فبعد وجود المحل امتنع احتياجه إلى المحل المسألة الرابعة هذه الآية تدل على أن إله العالم ليس موجبا بالذات بل هو فاعل مختار والدليل على أن الموجب بالذات لا يستحق على شيء من أفعاله الحمد والثناء والتعظيم ألا ترى أن الإنسان إذا انتفع بسخونة النار أو ببرودة الجمد فإنه لا يحمد النار ولا الجمد لما أن تأثير النار في التسخين وتأثير الجمد في التبريد ليس بالقدرة والاختيار بل بالطبع فلما حكم بكونه مستحقا للحمد والثناء ثبت أنه فاعل بالاختيار وإنما عرفنا كونه فاعلا مختارا لأنه لو كان موجبا لدامت الآثار والمعلولات بدوام المؤثر الموجب ولامتنع وقوع التغير فيها وحيث شاهدنا حصول التغيرات علمنا أن المؤثر فيها قادر بالاختيار لا موجب بالذات ولما كان الأمر كذلك لا جرم ثبت كونه مستحقا للحمد المسألة الخامسة لما خلق الله العالم مطابقا لمصالح العباد موافقا لمنافعهم كان الإحكام والإتقان ظاهرين في العالم الأعلى والعالم الأسفل وفاعل الفعل المحكم المتقن يجب أن يكون عالما فثبت بما ذكرنا أن قوله الحمد لله يدل على وجود الإله ويدل على كونه منزها عن الحيز والمكان ويدل على كونه منزها عن الحلول في المحل ويدل على كونه في نهاية القدرة ويدل على كونه في نهاية العلم ويدل على كونه في نهاية الحكمة وأما السؤال الثاني - وهو قوله هب أنه ثبت القول بوجود الإله القادر فلم قلتم إنه يستحق الحمد والثناء والجواب هو قوله الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وتقرير هذا الجواب أن العبد لا يخلو حاله في الدنيا عن أمرين إما أن يكون في السلامة والسعادة وإما أن يكون في الألم والفقر والمكاره فإن كان في السلامة والكرامة فأسباب تلك السلامة وتلك الكرامة لم تحصل إلا بخلق الله وتكوينه وإيجاده فكان رحمانا رحيما وإن كان في المكاره والآفات فتلك المكاره والآفات إما أن تكون من العباد أو من الله فإن كانت من العباد فالله سبحانه وتعالى وعد بأنه ينتصف للمظلومين في يوم الدين وإن كانت من الله فالله تعالى وعد بالثواب الجزيل والفضل الكثير على كل ما أنزله بعباده في الدنيا من المكروهات والمخافات وإذا كان الأمر كذلك ثبت أنه لا بد وأن يكون مستحقا للحمد الذي لا نهاية له والثناء الذي لا غاية له فظهر