وأما قوله إنه هو السميع العليم الأنفال ٦١ ففيه وجهان الأول أن الغرض من الاستعاذة الاحتراز من شر الوسوسة ومعلوم أن الوسوسة كأنها حروف خفية في قلب الإنسان ولا يطلع عليها أحد فكأن العبد يقول يا من هو على هذه الصفة التي يسمع بها كل مسموع ويعلم كل سر خفي أنت تسمع وسوسة الشيطان وتعلم غرضه فيها وأنت القادر على دفعها عني فادفعها عني بفضلك فلهذا السبب كان ذكر السميع العليم أولى بهذا الموضع من سائر الأذكار الثاني أنه إنما تعين هذا الذكر بهذا الموضع اقتداء بلفظ القرآن وهو قوله تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ٢٠٠ وقال في حم السجدة إنه هو السميع العليم فصلت ٣٦
المسألة الثانية
في البحث العقلي عن ماهية الاستعاذة اعلم أن الاستعاذة لا تتم إلا بعلم وحال وعمل أما العلم فهو كون العبد عالما بكونه عاجزا عن جلب المنافع الدينية والدنيوية وعن دفع جميع المضار الدينية والدنيوية وأن الله تعالى قادر على إيجاد جميع المنافع الدينية والدنيوية وعلى دفع جميع المضار الدينية والدنيوية قدرة لا يقدر أحد سواه على دفعها عنه فإذا حصل هذا العلم في القلب تولد عن هذا العلم حصول حالة في القلب وهي انكسار وتواضع ويعبر عن تلك الحالة بالتضرع إلى الله تعالى والخضوع له ثم إن حصول تلك الحالة في القلب يوجب حصول صفة أخرى في القلب وصفة في اللسان أما الصفة الحاصلة في القلب فهي أن يصير العبد مريدا لأن يصونه تعالى عن الآفات ويخصه بإفاضة الخيرات والحسنات وأما الصفة التي في اللسان فهي أن يصير العبد طالبا لهذا المعنى بلسانه من الله تعالى وذلك الطلب هو الاستعاذة وهو قوله ( أعوذ بالله ) إذا عرفت ما ذكرنا يظهر لك أن الركن الأعظم في الاستعاذة هو علمه بالله وعلمه بنفسه وأما علمه بالله فهو أن يعلم كونه سبحانه وتعالى عالما بجميع المعلومات فإنه لو لم يكن الأمر كذلك لجاز أن لا يكون الله عالما به ولا بأحواله فعلى هذا التقدير تكون الاستعاذة به عبثا ولا بد أن يعلم كونه قادرا على جميع الممكنات وإلا فربما كان عاجزا عن تحصيل مراد البعد ولا بد أن يعلم أيضا كونه جوادا مطلقا إذ لو كان البخل عليه جائزا لما كان في الاستعاذة فائدة ولا بد أيضا وأن يعلم أنه لا يقدر أحد سوى الله تعالى على أن يعينه على مقاصده إذ لو جاز أن يكون غير الله يعينه على مقاصده لم تكن الرغبة قوية في الاستعاذة بالله وذلك لا يتم إلا بالتوحيد المطلق وأعني بالتوحيد المطلق أن يعلم أن مدبر العالم واحد وأن يعلم أيضا أن العبد غير مستقل بأفعال نفسه إذ لو كان مستقلا بأفعال نفسه لم يكن في الاستعاذة بالغير فائدة فثبت بما ذكرنا أن العبد ما لم يعرف عزة الربوبية وذلة العبودية لا يصح منه أن يقول ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) ومن الناس من يقول لا حاجة في هذا الذكر إلى العلم بهذه المقدمات بل الإنسان إذا جوز كون الأمر كذلك حسن منه أن يقول أعوذ بالله على سبيل الإجمال وهذا ضعيف جدا لأن إبراهيم عليه السلام عاب أباه في قوله لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا مريم ٤٢ فبتقدير أن لا يكون الإله عالما بكل المعلومات قادرا على جميع المقدورات كان سؤاله سؤالا لمن لا يسمع ولا يبصر وكان داخلا تحت ما جعله إبراهيم عليه السلام عيبا على أبيه وأما علم العبد بحال نفسه فلا بد وان يعلم عجزه وقصوره عن رعاية مصالح نفسه على سبيل التمام وأن يعلم أيضا أنه بتقدير أن يعلم تلك المصالح بحسب الكيفية والكمية لكنه لا يمكنه تحصيلها عند عدمها ولا إبقاؤها عند وجودها إذا عرفت هذا فنقول إنه إذا حصلت هذه العلوم في قلب العبد وصار مشاهدا لها متيقنا فيها وجب أن يحصل


الصفحة التالية
Icon