إذا ثبت هذا فنقول قوله الْحَمْدُ للَّهِ يفيد أن هذه الماهية لله وذلك يمنع من ثبوت الحمد لغير الله فهذا يقتضي أن جميع أقسام الحمد والثناء والتعظيم ليس إلا لله سبحانه
فإن قيل إن شكر المنعم واجب مثل شكر الأستاذ على تعليمه وشكر السلطان على عدله وشكر المحسن على إحسانه كما قال عليه الصلاة والسلام ( من لم يشكر الناس لم يشكر الله )
قلنا المحمود والمشكور في الحقيقة ليس إلا الله وبيانه من وجوه الأول صدور الاحسان من العبد يتوقف على حصول داعية الاحسان في قلب العبد وحصول تلك الداعية في القلب ليس من العبد وإلا لافتقر في حصولها إلى داعية أخرى ولزم التسلسل بل حصولها ليس إلا من الله سبحانه فتلك الداعية عند حصولها يجب الفعل وعند زوالها يمتنع الفعل فيكون المحسن في الحقيقة ليس إلا الله فيكون المستحق لكل حمد في الحقيقة هو الله تعالى وثانيها أن كل من أحسن من المخلوقين إلى الغير فإنه إنما يقدم على ذلك الإحسان إما لجلب منفعة أو دفع مضرة أما جلب المنفعة فانه يطمع بواسطة ذلك الإحسان بما يصير سبباً لحصول السرور في قلبه أو مكافأة بقليل أو كثير في الدنيا أو وجدان ثواب في الآخرة وأما دفع المضرة فهو أن الإنسان إذا رأى حيواناً في ضر أو بلية فإنه يرق قلبه عليه وتلك الرقة ألم مخصوص يحصل في القلب عند مشاهدة وقوع ذلك الحيوان في تلك المضرة فإذا حاول إنقاذ ذلك الحيوان من تلك المضرة زالت تلك الرقة عن القلب وصار فارغ القلب طيب الوقت فذلك الإحسان كأنه سبب أفاد تخليص القلب عن ألم الرقة الحسيّة فثبت أن كل ما سوى الحق فإنه يستفيد بفعل الإحسان إما جلب منفعة أو دفع مضرة أما الحق سبحانه وتعالى فإنه يحسن ولا يستفيد منه جلب منفعة ولا دفع ممضرة وكان المحسن الحقيقي ليس إلا الله تعالى فبهذا السبب كان المستحق لكل أقسام الحمد هو الله فقال الْحَمْدُ للَّهِ وثالثها أن كل إحسان يقدم عليه أحد من الخلق فالانتفاع به لا يكمل إلا بواسطة إحسان الله ألا ترى أنه لولا أن الله تعالى خلق أنواع النعمة وإلا لم يقدر الإنسان على إيصال تلك الحنطة والفواكه إلى الغير وأيضاً فلولا أنه سبحانه أعطى الإنسان الحواس الخمس التي بها يمكنه الانتفاع بتلك النعم وإلا لعجز عن الانتفاع بها ولولا أنه سبحانه أعطاه المزاج الصحي والبنية السليمة وإلا لما أمكنه الانتفاع بها فثبت أن كل إحسان يصدر عن محسن سوى الله تعالى فإن الانتفاع به لا يكمل إلا بواسطة إحسان الله تعالى وعند هذا يظهر أنه لا محسن في الحقيقة إلا الله ولا مستحق للحمد إلا الله فلهذا قال الْحَمْدُ للَّهِ ورابعها أن الانتفاع بجميع النعم لا يمكن إلا بعد وجود المنتفع بعد كونه حياً قادراً عالماً ونعمة الوجود والحياة والقدرة والعلم ليست إلا من الله سبحانه والتربية الأصلية والأرزاق المختلفة لا تحصل إلا من الله سبحانه من أول الطفولية إلى آخر العمر ثم إذا تأمل الإنسان في آثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان ووصل إلى ما ألأدع الله تعالى في أعضائه من أنواع المنافع والمصالح علم أنها بحر لا ساحل له كما قال تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم ٣٤ ) فبتقدير أن نسلم أن العبد يمكنه أن ينعم على الغير إلا أن نعم العبد كالقطرة ونعم الله لا نهاية لها أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً فلهذا السبب كان المستحق للحمد المطلق والثناء المطلق ليس إلا الله سبحانه فلهذا قال الْحَمْدُ للَّهِ
المسألة الثالثة إنما قال الْحَمْدُ للَّهِ ولم يقل أحمد الله لوجوه أحدها أن الحمد صفة القلب


الصفحة التالية
Icon