هاتين الفائدتين الشريفتين إحداهما الاستدلال بحدوثها عن الاقرار بوجود الله تعالى وثانيهما أن الشعور بكونها نعماً يوجب ظهور حب الله في القلب ولا مقصود من جميع العبادات إلا هذان الأمران فلهذا السبب وقع الابتداء في هذا الكتاب الكريم بهذه الكلمة فقال الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ
واعلم أن هذه الكلمة بحر لا ساحل له لأن العالم اسم لكل ما سوى الله تعالى وما سوى الله إما جسم أو حال فيه أو لا جسم ولا حال فيه وهو الأرواح ثم الأجسام إما فلكية وءما عنصرية أما الفلكيات فأولها العرش المجيد ثم الكرسي الرفيع ويجب على العاقل أن يعرف أن العرش ما هو وأن الكرسي ما هو وأن يعرف صفاتهما وأحوالهما ثم يتأمل أن اللوح المحفوظ والقلم والرفرف والبيت المعمور وسدرة المنتهى ما هي وأن يعرف حقائقها ثم يتفكر في طبقات السموات وكيفية اتساعها وأجرامها وأبعادها ثم يتأمل في الكواكب الثابتة والسيارة ثم يتأمل في عالم العناصر الأربعة والمواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات والحيوان ثم يتأمل في كيفية حكمة الله تعالى في خلقه الأشياء الحقيرة والضعيفة كالبق والبعوض ثم ينتقل منها إلى معرفة أجناس الأعراض وأنواعها القريبة والبعيدة وكيفية المنافع الحاصلة من كل نوع من أنواعها ثم ينتقل منها إلى تعرف مراتب الأرواح السفلية والعلوية والعرشية والفلكية ومراتب الأرواح المقدسة عن علائق الأجسام المشار إليها بقوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء ١٩ ) فإذا استحضر مجموع هذه الأشياء بقدر القدرة والطاقة فقد حضر في عقله ذرة من معرفة العالم وهو كل ما سوى الله تعالى ثم عند هذا يعرف أن كل ما حصل لها من الوجود وكمالات الوجود في ذواتها من صفاتها وأحوالها وعلائقها فمن إيجاد الحق ومن جوده ووجوده فعند هذا يعرف من معنى قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ذرة وهذا بحر لا ساحل له وكلام لا آخر له والله أعلم
المسألة السادسة إنا وإن ذكرنا أن قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ أُجري مجرى قوله قولوا الحمد لله ربّ العالمين فإنما ذكرناه لأن قوله في أثناء السورة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لا يليق إلا بالعبد فلهذا السبب افتقرنا هناك إلى هذا الاضمار أما هذه السورة وهي قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فلا يبعد أن يكون المراد منه ثناء الله تعالى به على نفسه
وإذا ثبت هذا فنقول إن هذا يدل من بعض الوجوه على أنه تعالى منزّه عن الشبيه في اللذات والصفات والأفعال وذلك لأن قوله الْحَمْدُ للَّهِ جار مجرى مدح النفس وذلك قبيح في الشاهد فلما أمرنا بذلك دلّ هذا على أنه لا يمكن قياس الحق على الخلق فكما أن هذا قبيح من الخلق مع أنه لا يقبح من الحق فكذلك ليس كل ما يقبح من الخلق وجب أن يقبح من الحق وبهذا الطريق وجب أن يبطل كلمات المعتزلة في أن ما قبح منا وجب أن يقبح من الله
إذا عرفت بهذا الطريق أن أفعاله لا تشبه أفعال الخلق فكذلك صفاته لا تشبه صفات الخلق وذاته لا تشبه ذوات الخلق وعند هذا يحصل التنزيه المطلق والتقديس الكامل عن كونه تعالى مشابهاً لغيره في الذات والصفات والأفعال فهو الله سبحانه واحد في ذاته لا شريك له في صفاته ولا نظير له واحد في أفعاله لا شبيه له تعالى وتقدس والله أعلم


الصفحة التالية
Icon