تعالى لما بيّن بهذا الطريق كممال إلاهيته وقدرته ونفاذ تصرفه في عالم المخلوقات بالكلية أردفه بكمال رحمته وإحسانه إلى الخلق فقال كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ فكأنه تعالى قال إنه لم يرض من نفسه بأن لا ينعم ولا بأن يعد بالإنعام بل أبداً ينعم وأبداً يعد في المستقبل بالإنعام ومع ذلك فقد كتب على نفسه ذلك وأوجبه إيجاب الفضل والكرم واختلفوا في المراد بهذه الرحمة فقال بعضهم تلك الرحمة هي أنه تعالى يمهلهم مدة عمرهم ويرفع عنهم عذاب الاستئصال ولا يعالجلهم بالعقوبة في الدنيا وقيل إن المراد أنه كتب على نفسه الرحمة لمن ترك التكذيب بالرسل وتاب وأناب وصدقهم وقبل شريعتهم
واعلم أنه جاءت الأخبار الكثيرة في سعة رحمة الله تعالى عن النبي ( ﷺ ) أنه قال ( لما فرغ الله من الخلق كتب كتاباً أن رحمتي سبقت غضبي )
فإن قيل الرحمة هي إرادة الخير والغضب هو إرادة الانتقام وظاهر هذا الخبر يقتضي كون إحدى الإرادتين سابقة على الأخرى والمسبوق بالغير محدث فهذا يقتضي كون إرادة الله تعالى محدثة
قلنا المراد بهذا السبق سبق الكثرة لا سبق الزمان وعن سلمان أنه تعالى لما خلق السماء والأرض خلق مائة رحمة كل رحمة ملء ما بين السماء والأرض فعنده تسع وتسعون رحمة وقسم رحمة واحدة بين الخلائق فبها يتعاطفون ويتراحمون فإذا كان آخر الأمر قصرها على المتقين
أما قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ ففيه أبحاث الأول ( اللام ) في قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ لام قسم مضمر والتقدير والله ليجمعنكم
البحث الثاني اختلفوا في أن هذا الكلام مبتدأ أو متعلق بما قبله فقال بعضهم أنه كلام مبتدأ وذلك لأنه تعالى بيّن كمال إلهيته بقوله قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ ثم بيّن تعالى أنه يرحمهم في الدنيا بالامهال ودفع عذاب الاستئصال وبيّن أنه يجمعهم إلى يوم القيامة فقوله كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ أنه يمهلهم وقوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ أنه لا يمهلهم بل يحشرهم ويحاسبهم على كل ما فعلوا
والقول الثاني أنع متعلق بما قبله والتقدير كتب ربكم على نفسه الرحمة وكتب ربكم على نفسه ليجمعنكم إلى يوم القيامة
وقيل أنه لما قال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ فكأنه قيل وما تلك الرحمة فقيل إنه تعالى لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ وذلك لأنه لولا خوف العذاب يوم الققيامة لحصل الهرج والمرج ولارتفع الضبط وكثر الخبط فصار التهديد بيوم القيامة من أعظم أسباب الرحمة في الدنيا فكان قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ كالتفسير لقوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ
البحث الثالث أن قوله قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ كلام ورد على لفظ الغيبة وقوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ كلام ورد على سبيل المخاطبة والمقصود منه التأكيد في التهديد كأنه قيل لما علمتم أن كل ما في السماوات والأرض لله وملكه وقد علمتم أن الملك الحكيم لا يهمل أمر رعيته ولا


الصفحة التالية
Icon