لذاته وكل ما سوى الحق فهو إنما حصل بإيجاد الحق وتكوينه فثبت أن اندفاع جميع المضار لا يحصل إلا به وحصول جميع الخيرات والمنافع لا يكون إلا به فثبت بهذا البرهان العقلي البين صحة ما دلّت الآية عليه
فإن قيل قد نرى أن الإنسان بدفع المضار عن نفسه بماله وبأعوانه وأنصاره وقد يحصل الخير له بكسب نفسه وبإعانة غيره وذلك يقدح في عموم الآية وأيضاً فرأس المضار هو الكفر فوجب أن يقال إنه لم يندفع إلا بإعانة الله تعالى ورأس الخيرات هو الإيمان فوجب أن يقال أنه لم يحصل إلا بإيجاد الله تعالى ولو كان الأمر كذلك لوجب أن لا يستحق الإنسان بفعل الكفر عقاباً ولا يفعل الإيمان ثواباً وأيضاً فإنا نرى أن الإنسان ينتفع بأكل الدواء ويتضرر بتناول السموم وكل ذلك يقدح في ظاهر الآية
والجواب عن الأول أن كل فعل يصدر عن الإنسان فإنما يصدر عنه إذا دعاه الداعي إليه لأن الفعل بدون الداعي محال وحصول تلك الداعية ليس إلا من الله تعالى وعلى هذا التقدير فيكون الكل من الله تعالى وهكذا القول في كل ما ذكرتموه من السؤالات
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر إمساس الضر وإمساس الخير إلا أنه ميّز الأول عن الثاني بوجيهين الأول أنه تعالى قدم ذكر إمساس الضر على ذكر إمساس الخير وذلك تنبيه على أن جميع المضار لا بدّ وأن يحصل عقبيها الخير والسلامة والثاني أنه قال في إمساس الضر فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وذكر في إمساس الخير فَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدُيرٌ فذكر في الخير كونه قادراً على جميع الأشياء وذلك يدل على أن إرادة الله تعالى لايصال الخيرات غالبة على إرادته لايصال المضار وهذه الشبهات بأسرها دالة على أن إرادة الله تعالى جانب الرحمة غالب كما قال ( سبقت رحمتي غضبي )
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن صفات الكماب محصورة في القدرة والعلم فإن قالوا كيف أهملتم وجوب الوجود
قلنا ذلك عين الذات لا صفة قائمة بالذات لأن الصفة القائمة بالذات مفتقرة إلى الذات والمفتقر إلى الذات مفتقر إلى الغير فيكون ممكناً لذاته واجباً بغيره فيلزم حصول وجوب قبل الوجوب وذلك محال فثبت أنه عين الذات وثبت أن الصفات التي هي الكمالات حقيقتها هي القدرة والعلم فقوله وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ إشارة إلى كمال القدرة وقوله وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ إشارة إلى كمال العلم وقوله وَهُوَ الْقَاهِرُ يفيد الحصر ومعناه أنه لا موصوف بكمال القدرة وكمال العلم إلا الحق سبحانه وعند هذا يظهر أنه لا كامل إلا هو وكل من سواه فهو ناقص
إذا عرفت هذا فنقول أما دلالة كونه قاهراً على القدرة فلأنا بينا أن ما عدا الحق سبحانه ممكن بالوجود لذاته والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بترجيحه وتكوينه وإيجاده وإبداعه فيكون في الحقيقة هو الذي قهر الممكنات تارة في طرف ترجيح الوجود على العدم وتارة في طرف ترجيح العدم على الوجود ويدخل في هذا الباب كونه قاهراً لهم بالموت والفقر والاذلال ويدخل فيه


الصفحة التالية
Icon