ابن السكيت الوقر الثقل في الأذن
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يصرف عن الإيمان ويمنع منه ويحول بين الرجل وبينه وذلك لأن هذه الآية تدل على أنه جعل القلب في الكنان الذي يمنعه عن الإيمان وذلك هو المطلوب قالت المعتزلة لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى إنما أنزل القرآن ليكون حجة للرسول على الكفار لا ليكون حجة للكفار على الرسول ولو كان المراد من هذه الآية أنه تعالى منع الكفار عن الإيمان لكان لهم أن يقولوا للرسول لما حكم الله تعالى بأنه منعنا من الإيمان فلم يذمنا على ترك الإيمان ولم يدعونا إلى فعل الإيمان الثاني أنه تعالى لو منعهم من الإيمان ثم دعاهم إليه لكان ذلك تكليفاً للعاجز وهو منفي بصريح العقل وبقوله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة ٢٨٦ ) الثالث أنه تعالى حكى صريح هذا الكلام عن الكفار في معرض الذم فقال تعالى وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ ( فصلت ٥ ) وقال في آية أخرى وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ( البقرة ٨٨ ) وإذا كان قد حكى الله تعالى هذا المذهب عنهم فلي معرض الذم لهم امتنع أن يذكره هاهنا في معرض التقريع والتوبيخ وإلا لزم التناقض والرابع أنه لا نزاع أن القوم كانوا يفهمون ويسمعون ويعقلون والخامس أن هذه الآية وردت في معرض الذم لهم على ترك الإيمان ولو كان هذا الصد والمنع من قبل الله تعالى لما كانوا مذمومين بل كانوا معذورين والسادس أن قوله حَتَّى إِذَا لَكَِّرِهُونَ يُجَادِلُونَكَ يدل على أنهم كانوا يفقهون ويميزون الحق من الباطل وعند هذا قالوا لا بد من التأويل وهو من وجوه الأول قال الجبائي إن القوم كانوا يستمعون لقراءة الرسول ( ﷺ ) ليتوسلوا بسماع قراءته إلى معرفة مكانه بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه فعند ذلك كان الله سبحانه وتعالى يلقي على قلوبهم النوم وهو المراد من الأكنة ويثقل أسماعهم عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النوم وهو المراد من قوله وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ والثاني أن الإنسان الذي علم الله منه أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر فإنه تعالى يسم قلبه بعلامة مخصوصة يستدل الملائكة برؤيتها على أنه لا يؤمن فصارت تلك العلامة دلالة على أنهم لا يؤمنون
وإذا ثبت هذا فنقول لا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان والغطاء المانع مع أن تلك العلامة في نفسها ليست مانعة عن الإيمان
والتأويل الثالث أنهم لما أصروا على الكفر وعاندوا وصمموا عليه فصار عدولهم عن الإيمان والحالة هذه كالكنان المانع عن الإيمان فذكر الله تعالى الكنان كناية عن هذا المعنى
والتأويل الرابع أنه تعالى لما منعهم الالطاف التي إنما تصلح أن تفعل بمن قد اهتدى فأخلاهم منها وفوض أمرهم إلى أنفسهم لسوء صنيعهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه فيقول وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً
والتأويل الخامس أن يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ ( فصلت ٥ )
والجواب عن الوجوه التي تمسكوا بها في بيان أنه لا يمكن حمل الكنان والوقر على أن الله تعالى منعهم عن الإيمان وهو أن نقول بل البرهان العقلي الساطع قائم على صحة هذا المعنى وذلك لأن العبد


الصفحة التالية
Icon