السوية أو حال حصول هذا الرجحان والأول تكليف ما لا يطاق لأن الأمر بتحصيل الرجحان حال حصول الاستواء تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال وإن كان الثاني فالطرف الراجح يكون واجب الوقوع والطرف المرجوح يكون ممتنع الوقوع وكل هذه الأقسام تنافي ما ذكروه من المكنة والاختيار فسقط قولهم بالكلية والله أعلم
المسألة الثالثة قوله تعالى في آخر الآية تقديره ولو شاء الله هداهم لجمعهم على الهدى وحيثما جمعهم على الهدى وجب أن يقال إنه ما شاء هداهم وذلك يدل على أنه تعالى لا يريد الإيمان من الكافر بل يريد إبقاءه على الكفر والذي يقرب هذا الظاهر أن قدرة الكافر على الكفر إما أن تكون صالحة للإيمان أو غير صالحة له فإن لم تكن صالحة له فالقدرة على الكفر مستلزمة للكفر وغير صالحة للإيمان فخالق هذه القدرة يكون قد أراد هذا الكفر منه لا محالة وأما إن كانت هذه القدرة كما أنها صلحت للكفر فهي أيضاً صالحة للإيمان فلما ساتوت نسبة القدرة إلى الطرفين امتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر إلا لداعية مرجحة وحصول تلك الداعية ليس من العبد وإلا وقع التسلسل فثبت أن خالق تلك الداعية هو الله تعالى وثبت أن مجموع القدرة مع الداعية الحاصلة موجب للفعل فثبت أن خالق مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية المستلزمة لذلك الكفر مريد لذلك الكفر وغير مريد لذلك الإيمان فهذا البرهان اليقيني قوي ظاهر بهذه الآية ولا بيان أقوى من أن يتطابق البرهان مع ظاهر القرآن قالت المعتزلة المراد لولو شاء الله أن يلجئهم إلى الإيمان لجمعهم علي قال القاضي والالجاء هو أن يعلمهم أنهم لو حالولوا غير الإيمان لمنعهم منه وحينئذٍ يمتنعون من فعل شيء غير الإيمان ومثاله أن أحدنا لو حصل بحضرة السلطان وحضر هناك من حشمه الجمع العظيم وهذا الرجل علم أنه لو هم بقتل السلطان لقتلوه في الحال فإن هذا العلم يصير مانعاً له من قصد قتلك ذلك السلطان ويكون ذلك سبباً لكونه ملجأ إلى ترك ذلك الفعل فكذا ههنا
إذا عرفت الالجاء فنقول إنه تعالى إنما ترك فعل هذا الالجاء لأن ذلك يزيل تكليفهم فيكون ما يقع منهم كأن لم يقع وإنما أراد تعالى أن ينتفعوا مبا يختارونه من قبل أنفسهم من جهة الوصلة إلى الثواب وذلك لا يكون إلا اختياراً
والجواب أنه تعالى أراد منهم الاقدام على الإيمان حال كون الداعي إلى الإيمان وإلى الكفر على السوية أو حال حصول هذا الرجحان والأول تكليف ما لا يطاق لأن الأمر بتحصيل الرجحان حال حصول الاستواء تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال وإن كان الثاني فالطرف الراجح يكون واجب الوقوع والطرف المرجوح يكون ممتنع الوقوع وكل هذه الأقسام تنافي ما ذكروه من المكنة والاختيار فسقط قولهم بالكلية والله أعلم
المسألة الثالثة قوله تعالى في آخر الآية فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ نهي له عن هذه الحالة وهذا النهي لا يقتضي إقدامه على مثل هذه الحالة كما أن قوله وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب ٤٨ ) لا يدل على أنه ( ﷺ ) أطاعهم وقبل دينهم والمقصود أنه لا ينبغي أن يشتد تحسرك على تكذيبهم ولا يجوز أن تجزع من إعراضهم عنك فإنك لو فعلت ذلك قرب حالك من حال الجاهل والمقصود من تغليظ الخطاب التبعيد والزجر له عن مثل هذه الحالة والله أعلم
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
اعلم أنه تعالى بيّن السبب في كونهم بحيث لا يقبلون الإيمان ولا يتركون الكفر فقال إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يعني أن الذين تحرص على أن يصدقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون وإنما يستجيب من يسمع كقوله إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ( النمل ٨٠ ) قال علي بن عيسى الفرق بين يستجيب ويجيب أن يستجيب في قبوله لما دعي إليه وليس كذلك يجيب لأنه قد يجيب بالمخالفة كقول القائل أتوافق في هذا المذهب أم تخالف فيقول المجيب أخالف
وأما قوله وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ففيه قولان الأول أنه مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة والمراد أنه تعالى هو القادر على أن يبعث الموتى من القبور يوم القيامة ثم إليه يرجعون للجزاء فكذلك ههنا أنه تعالى هو القادر على إحياء قلوب هؤلاء الكفار بحياة الإيمان وأنت لا تقدر عليه
والقول الثاني أن المعنى وهؤلاء الموتى يعني الكفرة يبعثهم الله ثم إليه يرجعون فحينئذ يسمعون وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى استمعاهم وقريء يَرْجِعُونَ بفتح الياء وأقول لا شك أن الجسد الخالي عن الروح يظهر منه النتن والصديد والقيح وأنواع العفونات وأصلح أحواله أن يدفن تحت التراب وأيضاً الروح الخالية عن العقل يكون صاحبها مجنوناً يستوجب القيد والحبس والعقل بالنسبة إلى الروح كالروح بالنسبة إلى الجسد وأيضاً العقل بدون معرفة الله تعالى وصفاته وطاعته كالضائع الباطل فنسبة التوحيد والمعرفة إلى العقل كنسبة العقل إلى الروح ونسبة الروح إلى الجسد فمعرفة الله ومحبته روح روح الروح فالنفس الخالية عن هذه المعرفة تكون بصفة الأموات فلهذا السبب وصف الله أولئك الكفار المصرين بأنهم الموتى والله أعلم


الصفحة التالية
Icon