وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ( الحشر ٧ ) وأحد الأمور الداخلة تحت هذا أمر النبي عليه السلام بمتابعة الخلفاء الراشدين وثانيها التسمك بعموم قوله عليه الصلاة والسلام ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) وثالثها بيان أن عمر رضي الله عنه كان من الخلفاء الراشدين ورابعها الرواية عن عمر أنه لم يوجب في هذه المسألة شيئاً فثبت أن الطريق الذي ذكرناه أقرب
المثال الثالث قال الواحدي روي في حديث العسيف الزاني أن أباه قال للنبي ( ﷺ ) اقض بيننا بكتاب الله فقال عليه السلام ( والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ) ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف وبالرجم على المرأة إن اعترفت قال الواحدي وليس للجلد والتغريب ذكر في نص الكتاب وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي ( ﷺ ) فهو عين كتاب الله
وأقول هذا المثال حق لأنه تعالى قال لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ ( النحل ٤٤ ) وكل ما بينه الرسول عليه السلام كان داخلاً تحت هذه الآية فثبت بهذه الأمثلة أن القرآن لما دل على أن الإجماع حجة وأن خبر الواحد حجة وأن القياس حجة فكل حكم ثبت بطريق من هذه الطرق الثلاثة كان في الحقيقة ثابتاً بالقرآن فعند هذا يصح قوله تعالى وَمَا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء هذا تقرير هذا القول وهو الذي ذهب إلى نصرته جمهور الفقهاء ولقائل أن يقول حاصل هذه الوجه أن القرآن لما دل على خبر الواحد والقياس حجة فكل حكم ثبت بأحد هذين الأصلين كان في الحقيقة قد ثبت بالقرآن إلا أنا نقول حمل قوله مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء على هذا الوجه لا يجوز لأن قوله مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء ذكر في معرض تعظيم هذا الكتاب والمبالغة دي مدحه والثناء عليه ولو حملنا هذه الآية على هذا المعنى لم يحصل منه ما يوجب التعظيم وذلك لأنا لو فرضنا أن الله تعالى قال اعملوا بالإجماع وخبر الواحد والقياس كان المعنى الذي ذكروه حاصلاً من هذا اللفظ والمعنى الذي يمكن تحصيله من هذا اللفظ القليل لا يمكن جعله واجباً لمدح القرآن والثناء عليه لسبب اشتمال القرآن عليه لأن هذا إنما يوجب المدح العظيم والثناء التام لو لم يمكن تحصيله بطريق آخر أشد اختصاراً منه فأما لما بينا أن هذا القسم المقصود يمكن حمله وتحصيله باللفظ المختصر الذي ذكرناه علمنا أنه لا يمكن ذكره في تعظيم القرآن فثبت أن هذه الآية مذكورة في معرض تعظيم القرآن وثبت أن المعنى الذي ذكروه لا يفيد تعظيم القرآن فوجب أن يقال إنه لا يجوز حمل هذه الآية على هذا المعنى فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقرير هذا القول
والقول الثاني في تفسير هذه الآية قول من يقول القرآن وافٍ ببيان جميع الأحكام وتقريره أن الأصل براءة الذمة في حق جميع التكليف وشغل الذمة لا بدّ فيه من دليل منفصل والتنصيص على أقسام ما لم يرد فيه التكليف ممتنع لأن الأقسام التي لم يرد التكليف فيها غير متناهية والتنصيص على ما لا نهاية له محال بل التنصيص إنما يمكن على المتناهي مثلاً لله تعالى ألف تكليف على العباد وذكره في القرآن وأمر محمداً عليه السلام بتبليغ ذلك الألف تكليف آخر ثم أكد هذه الآية بقوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ( المائدة ٣ ) وبقوله وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ ( الانعام ٥٩ ) فهذا تقرير مذهب هؤلاء والاستقصاء فيه إنما يليق بأصول الفقه والله أعلم


الصفحة التالية
Icon