منه كقوله تعالى فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ( يونس ٩٤ ) وسمي الشك حرجاً لأن الشاك ضيق الصدر حرج الصدر كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسح القلب
ثم قال تعالى لِتُنذِرَ بِهِ هذه ( اللام ) بماذا تتعلق فيه أقوال الأول قال الفراء إنه متعلق بقوله أَنزَلَ إِلَيْكَ على التقديم والتأخير والتقدير كتاب أنزل إليك لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج منه
فإن قيل فما فائدة هذا التقديم والتأخير
قلنا لأن الإقدام على الإنذار والتبليغ لا يتم ولا يكمل إلا عند زوال الحرج عن الصدر فلهذا السبب أمره الله تعالى بإزالة الحرج عن الصدر ثم أمره بعد ذلك بالإنذار والتبليغ الثاني قال ابن الأنباري اللام ههنا بمعنى كي والتقدير فلا يكن في صدرك شك كي تنذر غيرك الثالث قال صاحب ( النظم ) اللام ههنا بمعنى أن والتقدير لا يضق صدرك ولا يضعف عن أن تنذر به والعرب تضع هذه اللام في موضع ( أن ) قال تعالى يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ( التوبة ٣٢ ) وفي موضع أخر يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ ( الصف ٨ ) وهما بمعنى واحد والرابع تقدير الكلام أن هذا الكتاب أنزله الله عليك وإذا علمت أنه تنزيل الله تعالى فاعلم أن عناية الله معك وإذا علمت هذا فلا يكن في صدرك حرج لأن من كان الله حافظاً له وناصراً لم يخف أحداً وإذا زال الخوف والضيق عن القلب فاشتغل بالإنذار والتبليغ والتذكير اشتغال الرجال الأبطال ولا تبال بأحد من أهل الزيغ والضلال والإبطال
ثم قال وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس يريد مواعظ للمصدقين قال الزجاج وهو اسم في موضع المصدر قال الليث الذّكْرَى اسم للتذكرة وفي محل ذكرى من الإعراب وجوه قال الفراء يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى لتنذر به ولتذكر ويجوز أن يكون رفعاً بالرد على قوله كِتَابٌ والتقدير كتاب حق وذكرى ويجوز أيضاً أن يكون التقدير وهو ذكرى ويجوز أن يكون خفضاً لأن معنى لتنذر به لأن تنذر به فهو في موضع خفض لأن المعنى للإنذار والذكرى
فإن قيل لم قيد هذه الذكرى بالمؤمنين
قلنا هو نظير قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة ٢ ) والبحث العقلي فيه أن النفوس البشرية على قسمين نفوس بليدة جاهلة بعيدة عن عالم الغيب غريقة في طلب اللذات الجسمانية والشهوات الجسدانية ونفوس شريفة مشرقة بالأنوار الإلهية مستعدة بالحوادث الروحانية فبعثة الأنبياء والرسل في حق القسم الأول إنذار وتخويف فإنهم لما غرقوا في نوم الغفلة ورقدة الجهالة احتاجوا إلى موقظ يوقظهم وإلى منبه ينبههم وأما في حق القسم الثاني فتذكير وتنبيه وذلك لأن هذه النفوس بمقتضى جواهرها الأصلية مستعدة للانجذاب إلى عالم القدس والاتصال بالحضرة الصمدية إلا أنه ربما غشيها غواش من عالم الجسم فيعرض لها نوع ذهول وغفلة فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصل بها أنوار أرواح رسل الله تعالى تذكرت مركزها وأبصرت منشأها واشتاقت إلى ما حصل هنالك من الروح والراحة والريحان فثبت أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب على رسوله ليكون إنذاراً في حق طائفة وذكرى في حق طائفة أخرى والله أعلم


الصفحة التالية
Icon