والوجه الثاني في الجواب أن يقال استوى بمعنى استولى وهذا الوجه قد أطلنا في شرحه في سورة طه فلا نعيده هنا
والوجه الثالث أن نفسر العرش بالملك ونفسر استوى بمعنى علا واستعلى على الملك فيكون المعنى أنه تعالى استعلى على الملك بمعنى أن قدرته نفذت في ترتيب الملك والملكوت واعلم أنه تعالى ذكر قوله اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ في سور سبع إحداها ههنا وثانيها في يونس وثالثها في الرعد ورابعها في طه وخامسها في الفرقان وسادسها في السجدة وسابعها في الحديد وقد ذكرنا في كل موضع فوائد كثيرة فمن ضم تلك الفوائد بعضها إلى بعض كثرت وبلغت مبلغاً كثيراً وافياً بإزالة شبه التشبيه عن القلب والخاطر
أما قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص يُغْشِى بتخفيف الغين وفي الرعد هكذا وقرأ حمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر بالتشديد وفي الرعد هكذا قال الواحدي رحمه الله الإغشاء والتغشية إلباس الشيء بالشيء وقد جاء التنزيل بالتشديد والتخفيف فمن التشديد قوله تعالى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ( النجم ٥٤ ) ومن اللغة الثانية قوله فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ( يس ٩ ) والمفعول الثاني محذوف على معنى فأغشيناهم العمى وفقد الرؤية
المسألة الثانية قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ يحتمل أن يكون المراد يلحق الليل بالنهار وأن يكون المراد النهار بالليل واللفظ يحتملهما معاً وليس فيه تغيير والدليل على الثاني قراءة حميد بن قيس وَهُوَ الَّذِى مَدَّ بفتح الياء ونصب الليل ورفع النهار أي يدرك النهار الليل ويطلبه قال القفال رحمه الله أنه سبحانه لما أخبر عباده باستوائه على العرش عن استمرار أصعب المخلوقات على وفق مشيئته أراهم ذلك عياناً فيما يشاهدونه منها ليضم العيان إلى الخبر وتزول الشبه عن كل الجهات فقال يَغْشَى وَهُوَ الَّذِى لأنه تعالى أخبر في هذا الكتاب الكريم بما في تعاقب الليل والنهار من المنافع العظيمة والفوائد الجليلة فإن بتعاقبهما يتم أمر الحياة وتكمل المنفعة والمصلحة
المسألة الثالثة قوله يَطْلُبُهُ حَثِيثًا قال الليث الحث الإعجال يقال حثثت فلاناً فأحتث فهو حثيث ومحثوث أي مجد سريع
واعلم أنه سبحانه وصف هذه الحركة بالسرعة والشدة وذلك هو الحق لأن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وتلك الحركة أشد الحركات سرعة وأكملها شدة حتى أن الباحثين عن أحوال الموجودات قالوا الإنسان إذا كان في العدو الشديد الكامل فإلى أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل وإذا كان الأمر كذلك كانت تلك الحركة في غاية الشدة والسرعة فلهذا السبب قال تعالى يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ونظير هذه الآية قوله سبحانه لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( يس ٤٠ ) فشبه ذلك السير وتلك الحركة بالسباحة في الماء والمقصود التنبيه على سرعتها وسهولتها وكمال إيصالها