في جميع الأمور وأيضاً إن فسرنا البركة بكثرة الآثار الفاضلة فالكل بهذا التفسير من الله تعالى لأن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته والواجب لذاته ليس إلا هو وكل ما سواه ممكن وكل ممكن فلا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته وكل الخيرات منه وكل الكمالات فائضة من وجوده وإحسانه فلا خير إلا منه ولا إحسان إلا من فيضه ولا رحمة إلا وهي حاصلة منه فلما كان الخلق والأمر ليس إلا منه لا جرم كان الثناء المذكور بقوله فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( غافر ٦٤ ) لا يليق إلا بكبريائه وكمال فضله ونهاية جوده ورحمته
المسألة الثالثة كون الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره سبحانه يحتمل وجوهاً أحدها أنا قد دللنا في هذا الكتاب العالي الدرجة أن الأجسام متماثلة ومتى كان كذلك كان اختصاص جسم الشمس بذلك النور المخصوص والضوء الباهر والتسخير الشديد والتأثير القاهر والتدبيرات العجيبة في العالم العلوي والسفلي لا بد وأن يكون لأجل أن الفاعل الحكيم والمقدر العليم خص ذلك الجسم بهذه الصفات وهذه الأحوال فجسم كل واحد من الكواكب والنيرات كالمسخر في قبول تلك القوى والخواص عن قدرة المدبر الحكيم الرحيم العليم وثانيها أن يقال إن لكل واحد من أجرام الشمس والقمر والكواكب سيراً خاصاً بطيئاً من المغرب إلى المشرق وسيراً آخر سريعاً بسبب حركة الفلك الأعظم فالحق سبحانه خص جرم الفلك الأعظم بقوة سارية في أجرام سائر الأفلاك باعتبارها صارت مستولية عليها قادرة على تحريكها على سبيل القهر من المشرق إلى المغرب فأجرام الأفلاك والكواكب صارت كالمسخرة لهذا القهر والقسر ولفظ الآية مشعر بذلك لأنه لما ذكر العرش بقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ رتب عليه حكمين أحدهما قوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ تنبيهاً على أن حدوث الليل والنهار إنما يحصل بحركة العرش والثاني قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ تنبيهاً على أن الفلك الأعظم الذي هو العرش يحرك الأفلاك والكواكب على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب وأنه تعالى أودع في جرم العرش قوة قاهرة باعتبارها قوى على قهر جميع الأفلاك والكواكب وتحريكها على خلاف مقتضى طبائعها فهذه أبحاث معقولة ولفظ القرآن مشعر بها والعلم عند الله وثانيها أن أجسام العالم على ثلاثة أقسام منها ما هي متحركة إلى الوسط وهي الثقال ومنها ما هي متحركة عن الوسط وهي الخفاف ومنها ما هي متحركة عن الوسط وهي الأجرام الفلكية الكوكبية فإنها مستديرة حول الوسط فكون الأفلاك والكواكب مستديرة حول مركز الأرض لا عنه ولا إليه لا يكون إلا بتسخير الله وتدبيره حيث خص كل واحد من هذه الأجسام بخاصة معينة وصفة معينة وقوة مخصوصة فلهذا السبب قال وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ورابعها أن الثوابت تتحرك في كل ستة وثلاثين ألف سنة دورة واحدة فهذه الحركة تكون في غاية البطء ثم ههنا دقيقة أخرى وهي أن كل كوكب من الكواكب الثابتة كان أقرب إلى المنطقة كانت حركته أسرع وكل ما كان أقرب إلى القطب كانت حركته أبطأ فالكواكب التي تكون في غاية القرب من القطب مثل كوكب الجدي وهو الذي تقول العوام إنه هو القطب يدور في دائرة في غاية الصغر وهو إنما يتمم تلك الدائرة الصغيرة جداً في مدة ستة وثلاثين ألف سنة فإذا تأملت علمت أن تلك الحركة بلغت في البطء إلى حيث لا توجد حركة في العالم تشاركها في البطء فذلك الكوكب اختص بأبطأ حركات هذا العالم وجرم الفلك الأعظم اختص بأسرع حركات العالم وفيما بين هاتين الدرجتين درجات لا نهاية لها في البطء والسرعة وكل واحد من الكواكب والدوائر والحوامل والممثلات يختص بنوع من تلك الحركات وأيضاً فلكل واحد من تلك الكواكب مدارات


الصفحة التالية
Icon