واعلم أن كل نوم ونعاس فإنه لا يحصل إلا من قبل الله تعالى فتخصيص هذا النعاس بأنه من الله تعالى لا بد فيه من مزيد فائدة وذكروا فيه وجوهاً أحدها أن الخائف إذا خاف من عدوه الخوف الشديد على نفسه وأهله فإنه لا يؤخذه النوم وإذا نام الخائفون أمنوا فصار حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد يدل على إزالة الخوف وحصول الأمن وثانيها أنهم خافوا من جهات كثيرة أحدها قلة المسلمين وكثرة الكفار وثانيها الأهبة والآلة والعدة للكافرين وقلتها للمؤمنين وثالثها العطش الشديد فلولا حصول هذا النعاس وحصول الاستراحة حتى تمكنوا في اليوم الثاني من القتال لما تم الظفر
والوجه الثالث في بيان كون ذلك النعاس نعمة في حقهم أنهم ما ناموا نوماً غرقاً يتمكن العدو من معاقصتهم بل كان ذلك نعاساً يحصل لهم زوال الأعياء والكلال مع أنهم كانوا بحيث لو قصدهم العدو لعرفوا وصوله ولقدروا على دفعه
والوجه الرابع أنه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم وحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر خارق للعادة فلهذا السبب قيل إن ذلك النعاس كان في حكم المعجز
فإن قيل فإن كان الأمر كما ذكرتم فلو خافوا بعد ذلك النعاس
قلنا لأن المعلوم أن الله تعالى يجعل جند الإسلام مظفراً منصوراً وذلك لا يمنع من صيرورة قوم منهم مقتولين
فإن قيل إذا قرىء يُغَشّيكُمُ بالتخفيف والتشديد ونصب النُّعَاسَ فالمضير لله عز وجل وأمنة مفعول له أما إذا قرىء يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ فكيف يمكن جعل قوله ءامِنَة ً مفعولاً له مع أن المفعول له يجب أن يكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل
قلنا قوله يغشاكم وإن كان في الظاهر مسنداً إلى النعاس إلا أنه في الحقيقة مسند إلى الله تعالى فصح هذا التعليل نظراً إلى المعنى قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء كَانَتْ ءامِنَة ً بسكون الميم ونظير أمن أمنة حي حياة ونظير أمن أمنة رحم رحمة قال ابن عباس النعاس في القتال أمنة من الله وفي الصلاة وسوسة من الشيطان
النوع الثاني من أنواع نعم الله تعالى المذكورة في هذا الموضع قوله تعالى وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ولا شبهة أن المراد منه المطر وفي الخبر أن القوم سبقوا إلى موضع الماء واستولوا عليه وطمعوا لهذا السبب أن تكون لهم الغلبة وعطش المؤمنون وخافوا وأعوزهم الماء للشرب والطهارة وأكثرهم احتلموا وأجنبوا وانضاف إلى ذلك أن ذلك الموضع كان رملاً تغوص فيه الأرجل ويرتفع منه الغبار الكثير وكان الخوف حاصلاً في قلوبهم بسبب كثرة العدو وسبب كثرة آلاتهم وأدواتهم فلما أنزل الله تعالى ذلك المطر صار ذلك دليلاً على حصول النصرة والظفر وعظمت النعمة به من جهات أحدها زوال العطش فقد روي أنهم حفروا موضعاً في الرمل فصار كالحوض الكبير واجتمع فيه الماء حتى شربوا منه وتطهروا وتزودوا وثانيها أنهم اغتسلوا من ذلك الماء وزالت الجنابة عنهم وقد علم بالعادة أن المؤمن يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنباً ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب فلا جرم عد تعالى وتقدس تمكينهم من الطهارة من جملة نعمه


الصفحة التالية
Icon