الصفة الأولى الكافر الذي يكون مستمراً على كفره مصراً عليه لا يتغير عنه البتة
الصفة الثانية أن يكون ناقضاً للعهد على الدوام فقوله الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ بدل من قوله الَّذِينَ كَفَرُواْ أي الذين عاهدت من الذين كفروا وهم شر الدواب وقوله مِنْهُمْ لتبعيض فإن المعاهدة إنما تكون مع أشرافهم وقوله ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرَّة ٍ قال أهل المعاني إنما عطف المستقبل على الماضي لبيان أن من شأنهم نقض العهد مرة بعد مرة قال ابن عباس هم قريظة فإنهم نقضوا عهد رسول الله ( ﷺ ) وأعانوا عليه المشركين بالسلاح في يوم بدر ثم قالوا أخطأنا فعاهدهم مرة أخرى فنقضوه أيضاً يوم الخندق وقوله وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ معناه أن عادة من رجع إلى عقل وحزم أن يتقي نقض العهد حتى يسكن الناس إلى قوله ويثقوا بكلامه فبين تعالى أن من جمع بين الكفر الدائم وبين نقض العهد على هذا الوجه كان شر الدواب
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَة ً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ
اعلم أنه تعالى تارة يرشد رسوله إلى الرفق واللطف في آيات كثيرة منها قوله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء ١٠٧ ) ومنها قوله فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ ( آل عمران ١٥٩ ) وتارة يرشد إلى التغليظ والتشديد كما في هذه الآية وذلك لأنه تعالى لما ذكر الذين ينقضون عهدهم في كل مرة بين ما يجب أن يعاملوا به فقال فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ قال الليث ثقفنا فلاناً في موضع كذا أي أخذناه وظفرنا به والتشريد عبارة عن التفريق مع الاضطراب يقال شرد يشرد شروداً وشرده تشريداً فمعنى الآية أنك إن ظفرت في الحرب بهؤلاء الكفار الذين ينقضون العهد فافعل بهم فعلاً يفرق بهم من خلفهم قال عطاء تثخن فيهم القتل حتى يخافك غيرهم وقيل نكل بهم تنكيلاً يشرد غيرهم من ناقضي العهد لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي لعل من خلفهم يذكرون ذلك النكال فيمنعهم ذلك عن نقض العهد وقرأ ابن مسعود فشرذ بالذال المنقطة من فوق بمعنى ففرق وكأنه مقلوب شذر وقرأ أبو حيوة من خلفهم والمعنى فشرد تشريداً متلبساً بهم من خلفهم لأن أحد العسكرين إذا كسروا الثاني فالكاسرون يعدون خلف المكسرين فأمر رسول الله ( ﷺ ) أن يشردهم في ذلك الوقت
وأما قوله وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَة ً يعني من قوم معاهدين خيانة ونكثاً بأمارات ظاهرة فَانبِذْ إِلَيْهِمْ فاطرح إليهم العهد على طريق مستو ظاهر وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم أخباراً مكشوفاً بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم ولاتبادرهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ في العهود وحاصل الكلام في هذه الآية أنه تعالى أمره بنبذ من ينقض العهد على أقبح الوجوه وأمره أن يتباعد على أقصى الوجوه من كل ما يوهم نكث العهد ونقضه قال أهل العلم آثار نقض العهد إذا ظهرت فإما أن تظهر ظهوراً محتملاً أو ظهوراً مقطوعاً به فإن كان الأول وجب الإعلام على ما هو مذكور في هذه الآية وذلك لأن قريظة عاهدوا النبي ( ﷺ ) ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله فحصل لرسول الله خوف الغدر منهم به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم عهودهم على سواء ويؤذنهم بالحرب أما إذا ظهر نقض العهد ظهوراً مقطوعاً به فههنا لا حاجة