الاستغناء إلى الحاجة فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنياً عن العرش ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقراً على العرش فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها بالاتفاق وإذا كان كذلك امتنع الاستدلال بها في إثبات المكان والجهة لله تعالى
المسألة الثالثة اتفق المسلمون على أن فوق السموات جسماً عظيماً هو العرش
إذا ثبت هذا فنقول العرش المذكور في هذه الآية هل المراد منه ذلك العرش أو غيره فيه قولان
القول الأول وهو الذي اختاره أبو مسلم الأصفهاني أنه ليس المراد منه ذلك بل المراد من قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أنه لما خلق السموات والأرض سطحها ورفع سمكها فإن كل بناء فإنه يسمى عرشاً وبانيه يسمى عارشاً قال تعالى وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ( النحل ٦٨ ) أي يبنون وقال في صفة القرية فَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا ( الحج ٤٥ ) والمراد أن تلك القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقوفها وقال وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ( هود ٧ ) أي بناؤه وإنما ذكر الله تعالى ذلك لأنه أعجب في القدرة فالباني يبني البناء متباعداً عن الماء على الأرض الصلبة لئلا ينهدم والله تعالى بنى السموات والأرض على الماء ليعرف العقلاء قدرته وكمال جلالته والاستواء على العرش هو الاستعلاء عليه بالقهر والدليل عليه قوله تعالى وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْفُلْكِ وَالاْنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَة َ رَبّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ( الزخرف ١٢ ١٣ ) قال أبو مسلم فثبت أن اللفظ يحتمل هذا الذي ذكرناه فنقول وجب حمل اللفظ عليه ولا يجوز حمله على العرش الذي في السماء والدليل عليه هو أن الاستدلال على وجود الصانع تعالى يجب أن يحصل بشيء معلوم مشاهد والعرش الذي في السماء ليس كذلك وأما أجرام السموات والأرضين فهي مشاهدة محسوسة فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصانع الحكيم جائزاً صواباً حسناً ثم قال ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ إشارة إلى تخليق ذواتها وقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يكون إشارة إلى تسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لمصالحها وعلى هذا الوجه تصير هذه الآية موافقة لقوله سبحانه وتعالى أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ( النازعات ٢٧ ٢٨ ) فذكر أولاً أنه بناها ثم ذكر ثانياً أنه رفع سمكها فسواها وكذلك ههنا ذكر بقوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أنه خلق ذواتها ثم ذكر بقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أنه قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها
والقول الثاني وهو القول المشهور لجمهور المفسرين أن المراد من العرش المذكور في هذه الآية الجسم العظيم الذي في السماء وهؤلاء قالوا إن قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ لا يمكن أن يكون معناه أنه تعالى خلق العرش بعد خلق السموات والأرضين بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ( هود ٧ ) وذلك يدل على أن تكوين العرش سابق على تخليق السموات والأرضين بل يجب تفسير هذه الآية بوجوه أخر وهو أن يكون المراد ثم يدبر الأمر وهو مستو على العرش
والقول الثالث أن المراد من العرش الملك يقال فلان ولي عرشه أي ملكه فقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ المراد أنه تعالى لما خلق السموات والأرض واستدارت الأفلاك والكواكب وجعل بسبب دورانها الفصول الأربعة والأحوال المختلفة من المعادن والنبات والحيوانات ففي هذا الوقت قد حصل وجود هذه


الصفحة التالية
Icon