الفائدة الثانية أن هذا تنبيه على أن مراتب السعادات في الآخرة مختلفة وذلك لأنها مقدرة بمقدار الدرجات الحاصلة في الدنيا فلما كان الإعراض عن غير الحق والإقبال على عبودية الحق درجات غير متناهية فكذلك مراتب السعادات الأخروية غير متناهية فلهذا السبب قال وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ
الفائدة الثالثة أنه تعالى قال في منافع الدنيا يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا وقال في سعادات الآخرة وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وذلك يدل على أن جميع خيرات الدنيا والآخرة ليس إلا منه وليس إلا بإيجاده وتكوينه وإعطاءه وجوده وكان الشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى يقول لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب فأكثر الناس عقولهم ضعيفة واشتغال عقولهم بهذه الوسائط الفانية يعميها عن مشاهدة أن الكل منه فأما الذين توغلوا في المعارف الإلهية وخاضوا في بحار أنوار الحقيقة علموا أن ما سواه ممكن لذاته موجود بإيجاده فانقطع نظرهم عما سواه وعلموا أنه سبحانه وتعالى هو الضار والنافع والمعطي والمانع
ثم إنه تعالى لما بين هذه الأحوال قال وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ والأمر كذلك لأن من اشتغل بعبادة غير الله صار في الدنيا أعمى مَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ( الإسراء ٧٢ ) والذي يبين ذلك أن من أقبل على طلب الدنيا ولذاتها وطيباتها قوي حبه لها ومال طبعه إليها وعظمت رغبته فيها فإذا مات بقي معه ذلك الحب الشديد والميل التام وصار عاجزاً عن الوصول إلى محبوبه فحينئذ يعظم البلاء ويتكامل الشقاء فهذا القدر المعلوم عندنا من عذاب ذلك اليوم وأما تفاصيل تلك الأحوال فهي غائبة عنا ما دمنا في هذه الحياة الدنيوية ثم بين أنه لا بد من الرجوع إلى الله تعالى بقوله إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى شَى ْء قَدِيرٌ
واعلم أن قوله إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ فيه دقيقة وهي أن هذا اللفظ يفيد الحصر يعني أن مرجعنا إلى الله لا إلى غيره فيدل هذا على أن لا مدبر ولا متصرف هناك إلا هو والأمر كذلك أيضاً في هذه الحياة الدنيوية إلا أن أقواماً اشتغلوا بالنظر إلى الوسائط فعجزوا عن الوصول إلى مسبب الأسباب فظنوا أنهم في دار الدنيا قادرون على شيء وأما في دار الآخرة فهذا الحال الفاسد زائل أيضاً فلهذا المعنى بين هذا الحصر بقوله إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ
ثم قال وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ وأقول إن هذا تهديد عظيم من بعض الوجوه وبشارة عظيمة من سائر الوجوه أما إنه تهديد عظيم فلأن قوله تعالى إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ يدل على أنه ليس مرجعنا إلا إليه وقوله وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ يدل على أنه قادر على جميع المقدورات لا دافع لقضائه ولا مانع لمشيئته والرجوع إلى الحاكم الموصوف بهذه الصفة مع العيوب الكثيرة والذنوب العظيمة مشكل وأما أنه بشارة عظيمة فلأن ذلك يدل على قدرة غالبة وجلالة عظيمة لهذا الحاكم وعلى ضعف تام وعجز عظيم لهذا العبد والملك القاهر العالي الغالب إذا رأى عاجزاً مشرفاً على الهلاك فإنه يخلصه من الهلاك ومنه المثل المشهور ملكت فاسجح
يقول مصنف هذا الكتاب قد أفنيت عمري في خدمة العلم والمطالعة للكتب ولا رجاء لي في شيء إلا أني في غاية الذلة والقصور والكريم إذا قدر غفر وأسألك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين وساتر عيوب المعيوبين ومجيب دعوة المضطرين أن تفيض سجال رحمتك على ولدي وفلذة كبدي وأن تخلصنا بالفضل والتجاوز والجود والكرم


الصفحة التالية
Icon