للسعادات الأخروية الروحانية فإذا وجد الدنيا فكأنه قد فاز بغاية السعادات فلا جرم يعظم فرحه بها وأما كونه فخوراً فلأنه لما كان الفوز بسائر المطلوب نهاية السعادة لا جرم يفتخر به فحاصل الكلام أنه تعالى بين أن الكافر عند البلاء لا يكون من الصابرين وعند الفوز بالنعماء لا يكون من الشاكرين ثم لما قرر ذلك قال إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ والمراد منه ضد ما تقدم فقوله إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ المراد منه أن يكون عند البلاء من الصابرين وقوله وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ المراد منه أن يكون عند الراحة والخير من الشاكرين ثم بين حالهم فقال أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ فجمع لهم بين هذين المطلوبين أحدهما زوال العقاب والخلاص منه وهو المراد من قوله لَهُم مَّغْفِرَة ٌ والثاني الفوز بالثواب وهو المراد من قوله وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ومن وقف على هذا التفصيل الذي ذكرناه علم أن هذا الكتاب الكريم كما أنه معجز بحسب ألفاظه فهو أيضاً معجز بحسب معانيه
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ وَكِيلٌ
اعلم أن هذا نوع آخر من كلمات الكفار والله تعالى بين أن قلب الرسول ضاق بسببه ثم إنه تعالى قواه وأيده بالإكرام والتأييد وفيه مسائل
المسألة الأولى روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رؤساء مكة قالوا يا محمد اجعل لنا جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً وقال آخرون ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك فقال لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية واختلفوا في المراد بقوله تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال المشركون للنبي ( ﷺ ) ( ائتنا بكتاب ليس فيه شتم آلهتنا حتى نتبعك ونؤمن بك وقال الحسن اطلبوا منه لا يقول إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ ( طه ١٥ ) وقال بعضهم المراد نسبتهم إلى الجهل والتقليد والإصرار على الباطل
المسألة الثانية أجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يخون في الوحي والتنزيل وأن يترك بعض ما يوحى إليه لأن تجويزه يؤدي إلى الشك في كل الشرائع والتكاليف وذلك يقدح في النبوة وأيضاً فالمقصود من الرسالة تبليغ تكاليف الله تعالى وأحكامه فإذا لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها المطلوبة منها وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ شيئاً آخر سوى أنه عليه السلام فعل ذلك وللناس فيه وجوه الأول لا يمتنع أن يكون في معلوم الله تعالى أنه إنما ترك التقصير في أداء الوحي والتنزيل لسبب يرد عليه من الله تعالى أمثال هذه التهيدات البليغة الثاني أنهم كانوا لا يعتقدون بالقرآن ويتهاونون به فكان يضيق صدر الرسول ( ﷺ ) أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه فهيجه الله تعالى لأداء الرسالة وطرح المبالاة بكلماتهم الفاسدة وترك الالتفات إلى استهزائهم والغرض منه التنبيه على أنه إن أدى ذلك الوحي وقع في سخريتهم وسفاهتهم


الصفحة التالية
Icon