وآثر الحياة الدنيا وأن ذلك الكافر الفاسق لو زاد عليه في التضييق لزاد في الشر وإليه الإشارة بقوله تعالى وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاْرْضِ ( الشورى ٢٧ )
الحجة الثالثة أنه تعالى كلف عبيده بالعبودية فقال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الطاريات ٥٦ ) والحكيم إذا أمر عبده بشيء فلا بد وأن يجعله فارغ الباب منتظم الأحوال حتى يمكنه الاشتغال بأداء تلك التكاليف والناس جبلوا على طلب اللذات وتحصيل الراحات لأنفسهم فلو لم يكن لهم زاجر من خوف المعاد لكثر الهرج والمرج ولعظمت الفتن وحينئذ لا يتفرغ المكلف للاشتغال بأداء العبادات فوجب القطع بحصول دار الثواب والعقاب لتنتظم أحوال العالم حتى يقدر المكلف على الاشتغال بأداء العبودية
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه يكفي في بقاء نظام العالم مهابة الملوك وسياساتهم وأيضاً فالأوباش يعلمون أنهم لو حكموا بحسن الهرج والمرج لانقلب الأمر عليهم ولقدر غيرهم على قتلهم وأخذ أموالهم فلهذا المعنى يحترزون عن إثارة الفتن
والجواب أن مجرد مهابة السلاطين لا تكفي في ذلك وذلك لأن السلطان إما أن يكون قد بلغ في القدرة والقوة إلى حيث لا يخاف من الرعية وإما أن يكون خائفاً منهم فإن كان لا يخاف الرعية مع أنه لا خوف له من المعاد فحينئذ يقدم على الظلم والإيذاء على أقبح الوجوه لأن الداعية النفسانية قائمة ولا رادع له في الدنيا ولا في الآخرة وأما إن كان يخاف الرعية فحينئذ الرعية لا يخافون منه خوفاً شديداً فلا يصير ذلك رادعاً لهم عن القبائح والظلم فثبت أن نظام العالم لا يتم ولا يكمل إلا بالرغبة في المعاد والرهبة عنه
الحجة الرابعة أن السلطان القاهر إذا كان له جمع من العبيد وكان بعضهم أقوياء وبعضهم ضعفاء وجب على ذلك السلطان إن كان رحيماً ناظراً مشفقاً عليهم أن ينتصف للمظلوم الضعيف من الظالم القادر القوي فإن لم يفعل ذلك كان راضياً بذلك الظلم والرضا بالظلم لا يليق بالرحيم الناظر المحسن
إذا ثبت هذا فنقول إنه سبحانه سلطان قاهر قادر حكيم منزه عن الظلم والعبث فوجب أن ينتصف لعبيده المظلومين من عبيده الظالمين وهذا الانتصاف لم يحصل في هذه الدار لأن المظلوم قد يبقى في غاية الذلة والمهانة والظالم يبقى في غاية العزة والقدرة فلا بد من دار أخرى يظهر فيها هذا العدل وهذا الإنصاف وهذه الحجة يصلح جعلها تفسيراً لهذه الآية التي نحن في تفسيرها
فإن قالوا إنه تعالى لما أقدر الظالم على الظلم في هذه الدار وما أعجزه عنه دل على كونه راضياً بذلك الظلم
قلنا الإقدار على الظلم عين الإقدار على العدل والطاعة فلو لم يقدره تعالى على الظلم لكان قد أعجزه عن فعل الخيرات والطاعات وذلك لا يليق بالحكيم فوجب في العقل إقداره على الظلم والعدل ثم إنه تعالى ينتقم للمظلوم من الظالم
الحجة الخامسة أنه تعالى خلق هذا العالم وخلق كل من فيه من الناس فإما أن يقال إنه تعالى


الصفحة التالية
Icon