العلم ومنكروا الحشر والنشر لا ينكرونه إلا لجهلهم بهذين الأصلين لأنهم تارة يقولون إنه تعالى موجب بالذات والموجب بالذات لا يصح منه القصد إلى التكوين وتارة يقولون إنه يمتنع كونه عالماً بالجزئيات فيمتنع منه تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو ولما كانت شبه الفلاسفة مستخرجة من هذين الأصلين لا جرم كلما ذكر الله تعالى مسألة المعاد أردفه بتقرير هذين الأصلين ثم إنه تعالى ذكر بعده الطريق الثاني وهو الاستدلال بالأعلى على الأدنى وتقريره من وجهين الأول أن الحياة لا تحصل إلا بالحرارة والرطوبة والتراب بارد يابس فحصلت المضادة بينهما إلا أنا نقول الحرارة النارية أقوى في صفة الحرارة من الحرارة الغريزية فلما لم يمتنع تولد الحرارة النارية عن الشجر الأخضر مع كمال ما بينهما من المضادة فكيف يمتنع حدوث الحرارة الغريزية في جرم التراب الثاني قوله تعالى أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ( يس ٨١ ) بمعنى أنه لما سلمتم أنه تعالى هو الخالق لأجرام الأفلاك والكواكب فكيف يمكنكم الامتناع من كونه قادراً على الحشر والنشر ثم إنه تعالى حسم مادة الشبهات بقوله إِنَّمَا أَمْرُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل ٤٠ ) والمراد أن تخليقه وتكوينه لا يتوقف على حصول الآلات والأدوات ونطفة الأب ورحم الأم والدليل عليه أنه خلق الأب الأول لا عن أب سابق عليه فدل ذلك على كونه سبحانه غنياً في الخلق والإيجاد والتكوين عن الوسائط والآلات ثم قال سبحانه فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَى ْء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( يس ٨٣ ) أي سبحانه من أن لا يعيدهم ويهمل أمر المظلومين ولا ينتصف للعاجزين من الظالمين وهو المعنى المذكور في هذه الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله سبحانه إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا
الحجة الثانية عشر دلت الدلائل على أن العالم محدث ولا بد له من محدث قادر ويجب أن يكون عالماً لأن الفعل المحكم المتقن لا يصدر إلا من العالم ويجب أن يكون غنياً عنها وإلا لكان قد خلقها في الأزل وهو محال فثبت أن لهذا العالم إلهاً قادراً عالماً غنياً ثم لما تأملنا فقلنا هل يجوز في حق هذا الحكيم الغني عن الكل أن يهمل عبيده ويتركهم سدى ويجوز لهم أن يكذبوا عليه ويبيح لهم أن يشتموه ويجحدوا ربوبيته ويأكلوا نعمته ويعبدوا الجبت والطاغوت ويجعلوا له أنداداً وينكروا أمره ونهيه ووعده ووعيده فههنا حكمت بديهة العقل بأن هذه المعاني لا تليق إلا بالسفيه الجاهل البعيد من الحكمة القريب من العبث فحكمنا لأجل هذه المقدمة أن له أمراً ونهياً ثم تأملنا فقلنا هل يجوز أن يكون له أمر ونهي مع أنه لا يكون له وعد ووعيد فحكم صريح العقل بأن ذلك غير جائز لأنه إن لم يقرن الأمر بالوعد بالثواب ولم يقرن النهي بالوعيد بالعقاب لم يتأكد الأمر والنهي ولم يحصل المقصود فثبت أنه لا بد من وعد ووعيد ثم تأملنا فقلنا هل يجوز أن يكون له وعد ووعيد ثم إنه لا يفي بوعده لأهل الثواب ولا بوعيده لأهل العقاب فقلنا إن ذلك لا يجوز لأنه لو جاز ذلك لما حصل الوثوق بوعده ولا بوعيده وهذا يوجب أن لا يبقى فائدة في الوعد والوعيد فعلمنا أنه لا بد من تحقيق الثواب والعقاب ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالحشر والبعث وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فهذه مقدمات يتعلق بعضها بالبعض كالسلسلة متى صح بعضها صح كلها ومتى فسد بعضها فسد كلها فدل مشاهدة أبصارنا لهذه التغيرات على حدوث العالم ودل حدوث العالم على وجود الصانع الحكيم الغني ودل ذلك على وجود الأمر والنهي ودل ذلك على وجود الثواب والعقاب ودل ذلك على وجوب الحشر فإن لم يثبت الحشر أدى ذلك إلى بطلان جميع


الصفحة التالية
Icon