على أن النفس كانت موجودة قبل البدن أما أن الإنسان شيء غير هذا البدن فلقوله تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء فالعلم الضروري حاصل بأن بدن المقتول ميت والنص دال على أنه حي فوجب أن تكون حقيقته شيئاً مغايراً لهذا البدن الميت وأيضاً قال الله تعالى في صفة نزع روح الكفار أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ( الأنعام ٩٣ ) وأما إن النفس كانت موجودة قبل البدن فلأن قوله تعالى في هذه الآية إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ يدل على ما قلنا لأن الرجوع إلى الموضع إنما يحصل لو كان ذلك الشيء قد كان هناك قبل ذلك ونظيره قوله تعالى أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَة ً ( الفجر ٢٧ ٢٨ ) وقوله ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ( الأنعام ٦٢ )
البحث الثالث المرجع بمعنى الرجوع و جَمِيعاً نصب على الحال أي ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع وهذا يدل على أنه ليس المراد من هذا المرجع الموت وإنما المراد منه القيامة
البحث الرابع قوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ يفيد الحصر وأنه لا رجوع إلا إلى الله تعالى ولا حكم إلا حكمه ولا نافذ إلا أمره وأما قوله وَعْدَ اللَّهِ حَقّا ففيه مسألتان
المسألة الأولى قوله وَعَدَ اللَّهُ منصوب على معنى وعدكم الله وعداً لأن قوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ معناه الوعد بالرجوع فعلى هذا التقدير يكون قوله وَعَدَ اللَّهُ مصدراً مؤكداً لقوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ وقوله حَقّاً مصدراً مؤكداً لقوله وَعَدَ اللَّهُ فهذه التأكيدات قد اجتمعت في هذا الحكم
المسألة الثانية قرىء وَعَدَ اللَّهُ على لفظ الفعل واعلم أنه تعالى لما أخبر عن وقوع الحشر والنشر ذكر بعده ما يدل على كونه في نفسه ممكن الوجود ثم ذكر بعده ما يدل على وقوعه أما ما يدل على إمكانه في نفسه فهو قوله سبحانه إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى تقرير هذا الدليل أنه تعالى بين بالدليل كونه خالقاً للأفلاك والأرضين ويدخل فيه أيضاً كونه خالقاً لكل ما في هذا العالم من الجمادات والمعادن والنبات والحيوان والإنسان وقد ثبت في العقل أن كل من كان قادراً على شيء وكانت قدرته باقية ممتنعة الزوال وكان عالماً بجميع المعلومات فإنه يمكنه إعادته بعينه فدل هذا الدليل على أنه تعالى قادر على إعادة الإنسان بعد موته
المسألة الثانية اتفق المسلمون على أنه تعالى قادر على إعدام أجسام العالم واختلفوا في أنه تعالى هل يعدمها أم لا فقال قوم إنه تعالى يعدمها واحتجوا بهذه الآية وذلك لأنه تعالى حكم على جميع المخلوقات بأنه يعيدها فوجب أن يعيد الأجسام أيضاً وإعادتها لا تمكن إلا بعد إعدامها وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محال ونظيره قوله تعالى يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاء كَطَى ّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ( الأنبياء ١٠٤ ) فحكم بأن الإعادة تكون مثل الابتداء ثم ثبت بالدليل أنه تعالى إنما يخلقها في الابتداء من العدم فوجب أن يقال إنه تعالى يعيدها أيضاً من العدم
المسألة الثالثة في هذه الآية إضمار كأنه قيل إنه يبدأ الخلق ليأمرهم بالعبادة ثم يميتهم ثم يعيدهم كما قال في سورة البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ ( البقرة ٢٨ ) إلا أنه تعالى حذف ذكر الأمر بالعبادة ههنا لأجل أنه تعالى قال قبل هذه الآية إِذْنِهِ ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ( يونس ٣ )


الصفحة التالية
Icon