صحة الحشر والنشر وذلك لأنه تعالى أثبت القول بصحة الحشر والنشر بناء على أنه لا بد من إيصال الثواب إلى أهل الطاعة وإيصال العقاب إلى أهل الكفر وأنه يجب في الحكمة تمييز المحسن عن المسيء ثم إنه تعالى ذكر في هذه الآية أنه جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل ليتوصل المكلف بذلك إلى معرفة السنين والحساب فيمكنه ترتيب مهمات معاشه من الزراعة والحراثة وإعداد مهمات الشتاء والصيف فكأنه تعالى يقول تمييز المحسن عن المسيء والمطيع عن العاصي أوجب في الحكمة من تعليم أحوال السنين والشهور فلما اقتضت الحكمة والرحمة خلق الشمس والقمر لهذا المهم الذي لا نفع له إلا في الدنيا فبأن تقتضي الحكمة والرحمة تمييز المحسن عن المسيء بعد الموت مع أنه يقتضي النفع الأبدي والسعادة السرمدية كان ذلك أولى فلما كان الاستدلال بأحوال الشمس والقمر من الوجه المذكور في هذه الآية مما يدل على التوحيد من وجه وعلى صحة القول بالمعاد من الوجه الذي ذكرناه لا جرم ذكر الله هذا الدليل بعد ذكر الدليل على صحة المعاد
المسألة الثانية الاستدلال بأحوال الشمس والقمر على وجود الصانع المقدر هو أن يقال الأجسام في ذواتها متماثلة وفي ماهياتها متساوية ومتى كان الأمر كذلك كان اختصاص جسم الشمس بضوئه الباهر وشعاعه القاهر واختصاص جسم القمر بنوره المخصوص لأجل الفاعل الحكيم المختار أما بيان أن الأجسام متماثلة في ذواتها وماهياتها فالدليل عليه أن الأجسام لا شك أنها متساوية في الحجمية والتحيز والجرمية فلو خالف بعضها بعضاً لكانت تلك المخالفة في أمر وراء الحجمية والجرمية ضرورة أن ما به المخالفة غير ما به المشاركة وإذا كان كذلك فنقول أن ما به حصلت المخالفة من الأجسام إما أن يكون صفة لها أو موصوفاً بها أو لا صفة لها ولا موصوفاً بها والكل باطل
أما القسم الأول فلأن ما به حصلت المخالفة لو كانت صفات قائمة بتلك الذوات فتكون الذوات في أنفسها مع قطع النظر عن تلك الصفات متساوية في تمام الماهية وإذا كان الأمر كذلك فكل ما يصح على جسم وجب أن يصح على كل جسم وذلك هو المطلوب
وأما القسم الثاني وهو أن يقال إن الذي به خالف بعض الأجسام بعضاً أمور موصوفة بالجسمية والتحيز والمقدار فنقول هذا أيضاً باطل لأن ذلك الموصوف إما أن يكون حجماً ومتحيزاً أو لا يكون والأول باطل وإلا لزم افتقاره إلى محل آخر ويستمر ذلك إلى غير النهاية وأيضاً فعلى هذا التقدير يكون المحل مثلاً للحال ولم يكن كون أحدهما محلاً والآخر حالاً أولى من العكس فيلزم كون كل واحد منهما محلاً للآخر وحالاً فيه وذلك محال وأما إن كان ذلك المحل غير متحيز وله حجم فنقول مثل هذا الشيء لا يكون له اختصاص بحيز ولا تعلق بجهة والجسم مختص بالحيز وحاصل في الجهة والشيء الذي يكون واجب الحصول في الحيز والجهة يمتنع أن يكون حالاً في الشيء الذي يمتنع حصوله في الحيز والجهة
وأما القسم الثالث وهو أن يقال ما به خالف جسم جسماً لا حال في الجسم ولا محل له فهذا أيضاً باطل لأن على هذا التقدير يكون ذلك الشيء شيئاً مبايناً عن الجسم لا تعلق له به فحينئذ تكون ذوات الأجسام من حيث ذواتها متساوية في تمام الماهية وذلك هو المطلوب فثبت أن الأجسام بأسرها


الصفحة التالية
Icon