فثبت بهذا أن انصراف العبد عن القبيح ليس إلا من الله تعالى ويمكن تقرير هذا الكلام من وجه آخر وهو أنه كان قد حصل في حق يوسف عليه السلام جميع الأسباب المرغبة في تلك المعصية وهو الانتفاع بالمال والجاه والتمتع بالمنكوح والمطعوم وحصل في الإعراض عنها جميع الأسباب المنفرة ومتى كان الأمر كذلك فقد قويت الدواعي في الفعل وضعفت الدواعي في الترك فطلب من الله سبحانه وتعالى أن يحدث في قلبه أنواعاً من الدواعي المعارضة النافية لدواعي المعصية إذ لو لم يحصل هذا المعارض لحصل المرجح للوقوع في المعصية خالياً عما يعارضه وذلك يوجب وقوع الفعل وهو المراد بقوله أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن زوج المرأة لما ظهر له براءة ساحة يوسف عليه السلام فلا جرم لم يتعرض له فاحتالت المرأة بعد ذلك بجميع الحيل حتى تحمل يوسف عليه السلام على موافقتها على مرادها فلم يلتفت يوسف إليها فلما أيست منه احتالت في طريق آخر وقالت لزوجها إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس يقول لهم إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر وإما أن تحبسه كما حبستني فعند ذلك وقع في قلب العزيز أن الأصلح حبسه حتى يسقط عن ألسنة الناس ذكر هذا الحديث وحتى تقل الفضيحة فهذا هو المراد من قوله ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ لأن البداء عبارة عن تغير الرأي عما كان عليه في الأول والمراد من الآيات براءته بقد القميص من دبر وخمش الوجه وإلزام الحكم أياها بقوله إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ( يوسف ٢٨ ) وذكرنا أنه ظهرت هناك أنواع أخر من الآيات بلغت مبلغ القطع ولكن القوم سكتوا عنها سعياً في إخفاء الفضيحة
المسألة الثالثة قوله بدالهم فعل وفاعله في هذا الموضع قوله الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ وظاهر هذا الكلام يقتضي إسناد الفعل إلى فعل آخر إلا أن النحويين اتفقوا على أن إسناد الفعل إلى الفعل لا يجوز فإذا قلت خرج ضرب لم يفد ألبتة فعند هذا قالوا تقدير الكلام ثم بدا لهم سجنه إلا أنه أقيم هذا الفعل مقام ذلك الاسم وأقول الذوق يشهد بأن جعل الفعل مخبر عنه لا يجوز وليس لأحد أن يقول الفعل خبراً فجعل الخبر مخبراً عنه لا يجوز لأنا نقول الاسم قد يكون خبراً كقولك زيد قائم فقائم اسم وخبر فعلمنا أن كون الشيء خبراً لا ينافي كونه مخبراً عنه بل نقول في هذا المقام شكوك أحدها أنا إذا قلنا ضرب فعل


الصفحة التالية
Icon