قلنا الآية تدل على أن الأمور معلقة بالمشيئة الإلهية والقدرة المحضة فأمارعاية قيد الصلاح فأمر اعتبرته أنت من نفسك مع أن اللفظ لا يدل عليه
ثم قال تعالى وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وذلك لأن إضاعة الأجر إما أن يكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حق الله تعالى فكانت الإضاعة ممتنعة
واعلم أن هذا شهادة من الله تعالى على أن يوسف عليه السلام كان من المحسنين ولو صدق القول بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال إنه كان من المحسنين فههنا لزم إما تكذيب الله في حكمه على يوسف بأنه كان من المحسنين وهو عين الكفر أو لزم تكذيب الحشوي فيما رواه وهو عين الإيمان والحق
ثم قال تعالى وَلاَجْرُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ وفيه مسائل
المسألة الأول في تفسير هذه الآية قولان
القول الأول المراد منه أن يوسف عليه السلام وإن كان قد وصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الدنيا إلا أن الثواب الذي أعده الله له في الآخرة خير وأفضل وأكمل وجهات الترجيح قد ذكرناها في هذا الكتاب مراراً وأطواراً وحاصل تلك الوجوه أن الخير المطلق هو الذي يكون نفعاً خالصاً دائماً مقروناً بالتعظيم وكل هذه القيود الأربعة حاصلة في خيرات الآخرة ومفقودة في خيرات الدنيا
القول الثاني أن لفظ الخير قد يستعمل لكون أحد الخيرين أفضل من الآخر كما يقال الجلاب خير من الماء وقد يستعمل لبيان كونه في نفسه خيراً من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل كما يقال الثريد خير من الله يعني الثريد خير من الخيرات حصل بإحسان من الله
إذا ثبت هذا فقوله وَلاَجْرُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ إن حملناه على الوجه الأول لزم أن تكون ملاذ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضاً وأما إن حملناه على الوجه الثاني لزم أن لا يقال إن منافع الدنيا أيضاً خيرات بل لعله يفيد أن خير الآخرة هو الخير وأما ما سواه فعبث
المسألة الثانية لا شك أن المراد من قوله وَلاَجْرُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ شرح حال يوسف عليه السلام فوجب أن يصدق في حقه أنه من الذين آمنوا وكانوا يتقون وهذا تنصيص من الله عز وجل على أنه كان في الزمان السابق من المتقين وليس ههنا زمان سابق ليوسف عليه السلام يحتاج إلى بيان أنه كان فيه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال الله فيه وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ( يوسف ٢٤ ) فكان هذا شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتقين وأيضاً قوله وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان من المحسنين وقوله إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ شهادة من الله تعالى على أنه من المخلصين فثبت أن الله تعالى شهد بأن يوسف عليه السلام كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين والجاهل الحشوي يقول إنه كان من الأخسرين المذنبين ولا شك أن من لم يقل بقول الله سبحانه وتعالى مع هذه التأكيدات كان من الأخسرين
المسألة الثالثة قال القاضي قوله تعالى وَلاَجْرُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ يدل على بطلان قول المرجئة الذين يزعمون أن الثواب يحصل في الآخرة لمن لم يتق الكبائر