والوجه الرابع أن بعض تلك الحركات مشرقية وبعضها مغربية وبعضها مائلة إلى الشمال وبعضها مائلة إلى الجنوب وهذا أيضاً لا يتم إلا بتدبير كامل وحكمة بالغة
النوع الثاني من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى وفيه قولان الأول قال ابن عباس للشمس مائة وثمانون منزلاً كل يوم لها منزل وذلك يتم في ستة أشهر ثم إنها تعود مرة أخرى إلى واحد منها في ستة أشهر أخرى وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلاً فالمراد بقوله كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى هذا وتحقيقه أنه تعالى قدر لكل واحد من هذه الكواكب سيراً خاصاً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يكون لها بحسب كل لحظة ولمحة حالة أخرى ما كانت حاصلة قبل ذلك
والقول الثاني أن المراد كونهما متحركين إلى يوم القيامة وعند مجيء ذلك اليوم تنقطع هذه الحركات وتبطل تلك السيرات كما وصف الله تعالى ذلك في قوله إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ( التكوير ١ ٢ ) إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ( الإنشقاق ١ ) إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ( الأنفطار ١ ) جَمَعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( القيامة ٩ ) وهو كقوله سبحانه وتعالى ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ( الأنعام ٢ ) ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل قال يُدَبّرُ الاْمْرَ وكل واحد من المفسرين حمل هذا على تدبير نوع آخر من أحوال العالم والأولى حمله على الكل فهو يدبرهم بالإيجاد والإعدام وبالإحياء والإماتة والإغناء والإفقار ويدخل فيه إنزال الوحي وبعثة الرسل وتكليف العباد وفيه دليل عجيب على كمال القدرة والرحمة وذلك لأن هذا العالم المعلوم من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى أنواع وأجناس لا يحيط بها إلا الله تعالى والدليل المذكور دل على أن اختصاص كل واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته ليس إلا من الله تعالى ومن المعلوم أن كل من اشتغل بتدبير شيء فإنه لا يمكنه شيء آخر إلا الباري سبحانه وتعالى فإنه لا يشغله شأن عن شأن أما العاقل فإنه إذا تأمل في هذه الآية علم أنه تعالى يدبر عالم الأجسام وعالم الأرواح ويدبر الكبير كما يدبر الصغير فلا يشغله شأن عن شأن ولا يمنعه تدبير عن تدبير وذلك يدل على أنه تعالى في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته غير مشابه للمحدثات والممكنات
ثم قال يُفَصّلُ الآيَاتِ وفيه قولان الأول أنه تعالى بين الآيات الدالة على إلهيته وعلمه وحكمته والثاني أن الدلائل الدالة على وجود الصانع قسمان أحدهما الموجودات الباقية الدائمة كالأفلاك والشمس والقمر والكواكب وهذا النوع من الدلائل هو الذي تقدم ذكره والثاني الموجودات الحادثة المتغيرة وهي الموت بعد الحياة والفقر بعد الغنى والهرم بعد الصحة وكون الأحمق في أهنأ العيش والعاقل الذكي في أشد الأحوال فهذا النوع من الموجودات والأحوال دلالتها على وجود الصانع الحكيم ظاهرة باهرة وقوله يُفَصّلُ الآيَاتِ إشارة إلى أنه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز والتفصيل
ثم قال لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ واعلم أن الدلائل المذكورة كما تدل على وجود الصانع الحكيم فهي أيضاً تدل على صحة القول بالحشر والنشر لأن من قدر على خلق هذه الاْشياء وتدبيرها على عظمتها وكثرتها فلأن يقدر على الحشر والنشر كان أولى يروى أن رجلاً قال لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه أنه


الصفحة التالية
Icon