وامتنع هو صار من المغرقين فكيف يطلب من الله تخليصه من الغرق بعد أن صار من المغرقين فهذه الآية من هذه الوجوه الستة تدل على صدور المعصية من نوح عليه السلام
واعلم أنه لما دلت الدلائل الكثيرة على وجوب تنزيه الله تعالى الأنبياء عليهم السلام من المعاصي وجب حمل هذه الوجوه المذكورة على ترك الأفضل والأكمل وحسنات الأبرار سيئات المقربين فلهذا السبب حصل هذا العتاب والأمر بالاستغفار ولا يدل على سابقة الذنب كما قال إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ( النصر ١ ٣ ) ومعلوم أن مجيء نصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجاً ليست بذنب يوجب الاستغفار وقال تعالى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( محمد ١٩ ) وليس جميعهم مذنبين فدل ذلك على أن الاستغفار قد يكون بسبب ترك لأفضل
المسألة الثانية قرأ نافع برواية ورش وإسمعيل بتشديد النون وإثبات الياء تَسْأَلْنى وقرأ ابن عامر ونافع برواية قالون بتشديد النون وكسرها من غير إثبات الياء وقرأ أبو عمرو بتخفيف النون وكسرها وحذف الياء تسألن أما التشديد فللتأكيد وأما إثبات الياء فعلى الأصل وأما ترك التشديد والحذف فللتخيف من غير إخلال
واعلم أنه تعالى لما نهاه عن ذلك السؤال حكى عنه أنه قال قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ والمعنى أنه تعالى لما قال له فَلاَ تَسْأَلْنى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فقال عند ذلك قبلت يا رب هذا التكليف ولا أعود إليه إلا أني لا أقدر على الاحتراز منه إلا بإعانتك وهدايتك فلهذا بدأ أولاً بقوله إِنّى أَعُوذُ بِكَ
واعلم أن قوله إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ إخبار عما في المستقبل أي لا أعود إلى هذا العمل ثم أشتغل بالاعتذار عما مضى فقال وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ وحقيقة التوبة تقتضي أمرين أحدهما في المستقبل وهو العزم على الترك وإليه الإشارة بقوله إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ والثاني في الماضي وهو الندم على ما مضى وإليه الإشارة بقوله وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ ونختم هذا الكلام بالبحث عن الزلة التي صدرت عن نوح عليه السلام في هذا المقام فنقول إن أمة نوح عليه السلام كانوا على ثلاثة أقسام كافر يظهر كفره ومؤمن يعلم إيمانه وجمع من المنافقين وقد كان حكم المؤمنين هو النجاة وحكم الكافرين هو الغرق وكان ذلك معلوماً وأما أهل النفاق فبقي حكمهم مخفياً وكان ابن نوح منهم وكان يجوز فيه كونه مؤمناً وكانت الشفقة المفرطة التي تكون من الأب في حق الابن تحمله على حمل أعماله وأفعاله لا على كونه كافراً بل على الوجوه الصحيحة فلما رآه بمعزل عن القوم طلب منه أن يدخل السفينة فقال سَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاء وذلك لا يدل على كفره لجواز أن يكون قد ظن أن الصعود على الجبل يجري مجرى الركوب في السفينة في أنه يصونه عن الغرق وقول نوح لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ لا يدل إلا على أنه عليه السلام كان يقرر عند بنه أنه لا ينفعه إلا الإيمان والعمل الصالح وهذا أيضاً لا يدل على أنه علم من ابنه أنه كان كافراً فعند هذه الحالة كان قد بقي في قلبه ظن أن ذلك الابن مؤمن فطلب من الله