المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإيمان في أصل اللغة عبارة عن التصديق لأن المراد من قوله وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا أي بمصدق وإذا ثبت أن الأمر كذلك في أصل اللغة وجب أن يبقى في عرف الشرع كذلك وقد سبق الاستقصاء فيه في أول سورة البقرة في تفسير قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة ٣ )
ثم قال تعالى وَجَاءوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى إنما جاؤا بهذا القميص الملطخ بالدم ليوهم كونهم صادقين في مقالتهم قيل ذبحوا جدياً ولطخوا ذلك القميص بدمه قال القاضي ولعل غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في غيابة الجب أن يفعلوا هذا توكيداً لصدقهم لأنه يبعد أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان فلو خرقوه مع لطخه بالدم لكان الإيهام أقوى فلما شاهد يعقوب القميص صحيحاً علم كذبهم
المسألة الثانية قوله وَجَاءوا عَلَى قَمِيصِهِ أي وجاؤا فوق قميصه بدم كما يقال جاؤا على جمالهم بأحمال
المسألة الثالثة قال أصحاب العربية وهم الفراء والمبرد والزجاج وابن الأنباري بِدَمٍ كَذِبٍ أي مكذوب فيه إلا أنه وصف بالمصدر على تقدير دم ذي كذب ولكنه جعل نفسه كذباً للمبالغة قالوا والمفعول والفاعل يسميان بالمصدر كما يقال ماء سكب أي مسكوب ودرهم ضرب الأمير وثوب نسج اليمن والفاعل كقوله إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً ( الملك ٣٠ ) ورجل عدل وصوم ونساء نوح ولما سميا بالمصدر سمي المصدر أيضاً بهما فقالوا للعقل المعقول وللجلد المجلود ومنه قوله تعالى بِأَيّكُمُ الْمَفْتُونُ ( القلم ٦ ) وقوله إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ( سبأ ٧ ) قال الشعبي قصة يوسف كلها في قميصه وذلك لأنهم لما ألقوه في الجب نزعوا قميصه ولطخوه بالدم وعرضوه على أبيه ولما شهد الشاهد قال إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ ( يوسف ٢٦ ) ولما أتي بقميصه إلى يعقوب عليه السلام فألقى على وجهه ارتد بصيراً ثم ذكر تعالى أن أخوة يوسف لما ذكروا ذلك الكلام واحتجوا على صدقهم بالقميص الملطخ بالدم قال يعقوب عليه السلام بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا
قال ابن عباس معناه بل زينت لكم أنفسكم أمراً والتسويل تقدير معنى في النفس مع الطمع في إتمامه قال الأزهري كأن التسويل تفعيل من سؤال الإنسان وهو أمنيته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل وغيره وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمز وقال صاحب ( الكشاف ) سَوَّلَتْ سهلت من السول وهو الاسترخاء
إذا عرفت هذا فنقول قوله بَلِ رد لقولهم أَكَلَهُ الذّئْبُ كأنه قال ليس كما تقولون بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ في شأنه أمْراً أي زينت لكم أنفسكم أمراً غير ما تصفون واختلفوا في السبب الذي به عرف كونهم كاذبين على وجوه لأول أنه عرف ذلك بسبب أنه كان يعرف الحسد الشديد في قلوبهم والثاني أنه كان عالماً بأنه حي لأنه عليه الصلاة والسلام قال ليوسف وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ( يوسف ٦ )


الصفحة التالية
Icon